٩٣٠- أخبرنا القاضي أبو منصور محمد بن عبد الله بن عبد الواحد بن مندويه الشروطي المعدل -رحمه الله-، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد [الله] الحافظ، ثنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد العطار النصيبي ببغداد، ثنا أبو محمد الحارث بن أبي أسامة، ثنا عبد العزيز بن أبان بن محمد، ثنا معمر بن أبان بن حمران، أنا الزهري، ثنا عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان دين ⦗٤٦٩⦘ الإسلام، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار غدوة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر -رضي الله عنه- مهاجراً إلى أرض الحبشة حتى إذا أتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال له ابن الدغنة: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني [قومي] فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي عز وجل، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج أنت تكسو المعدم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، يعني: فأنا لك جار، فارتحل ابن الدغنة ورجع معه أبو بكر، فطاف في كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنه يكسب المعدم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر -رضي الله عنه- وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه عز وجل في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا ولا يعلن به، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر -رضي الله عنه-، فلبث أبو بكر يعبد الله عز وجل في داره ولا يعلن القراءة، ثم بدا لأبي بكر -رضي الله عنه- فبنى مسجداً بفناء داره فبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيأتيه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يبكي لا يملك دمعته حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك كفار قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم يعني: مكة، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه قد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك؛ فإن كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر بالاستعلان، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عهد رجلٍ عقدت له، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل ورسوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين)) ، وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة -حين ذكر ذلك- ورجع إلى المدينة بعض من كان مهاجراً إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي)) . قال: ⦗٤٧٠⦘ فحبس أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر شهراً، كذا كان في نسختي وفي سائر الروايات: أربعة أشهر.
قال عروة: فحدثتني عائشة -رضي الله عنها- قالت: فبينا نحن يوماً جلوساً في بيتنا بحر الظهيرة فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: فداك أبي وأمي، والله ما جاء بك هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأبي بكر) : ((أخرج من عندك؟)) قال أبو بكر -رضي الله عنه-: إنما هم أهلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فإنه قد أذن لي في الخروج)) ، فقال أبو بكر: فالصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نعم)) ، فقال أبو بكر: فخذ بأبي وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بالثمن)) .
قالت عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز، فصنعنا لهم سفرة في جراب، وقطعت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قطعت من نطاقها؛ أوكت به الجراب؛ فلذلك كانت تسمى: ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر -رضي الله عنه- بغار جبل يقال له: ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، [يبيت] عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنه عنهما- وهو غلام شاب لقن، فيدلج من عندهما سحراً فيصبح مع قريش كبايت؛ لا يسمع أمراً يكادان به يعني إلا وعاه، حتى يأتيهما به ويخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر -رضي الله عنهما- منيحة من الغنم، فيريح عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل منيحتهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدئل، ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً، والخريت: الهادي.
إلى هنا ذكره الحارث بن [أبي] أسامة وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري من حديث معمر بن راشد، وعقيل عن الزهري، ومعمر بن أبان هذا يقال: بصم الميم الأولى ⦗٤٧١⦘ وتشديد الثانية، وبفتح الأولى وسكون العين وتخفيف الميم الثانية أيضاً، والمقصود من هذا الحديث حكاية عائشة -رضي الله عنها- عن أختها وأم عروة أسماء بنت أبي بكر، وقد سمعه عروة أيضاً، عن أمه قصة النطاق، وله طرق في الصحيح ذكرناه في موضع آخر، وبرك الغماد بكسر الباء وفتح الغين ويقال بضمها: موضع، والقارة: قبيلة سمي أبوهم بذلك حيث قال:
دعونا قارة لا تنقرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
وفي هذه الرواية ألفاظ غيرها أصبح منها ولكنه طريق عال.
آخر المجلس وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.