وهما نهايتان في اتجاهين متضادين، لا يقبل المرء على إحداهما إلا ابتعد عن الأخرى، ذلك أن البليغ إما أن يؤدي مراده جملة مختصرا، مقلّا من الألفاظ فلا بد أن يحيف على المعنى قليلا أو كثيرا، وإما أن يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره وإبراز كل دقائقه، فلا يجد بدا من أن يمدّ في نفسه مدا، لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة.
ولئن وفق البليغ لتقريب هاتين الغايتين تقريبا ما في جملة أو جملتين، فلا يلبث أن يدركه الكلال والإعياء، وضعف الطبع الإنساني فلا يسترجع قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر هاهنا وقطعة هنالك، فتقول هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود ... وقد أجمع نقّاد الشعر والنثر على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة من قصائد معدودة، ثم وراء ذلك الوسط والرديء والغثّ والمستكره ...
أما القرآن الكريم فقد جاء البيان فيه مقدرا أحسن تقدير، فلا تحسّ فيه بالإسراف ولا بالتقتير، فهو يؤدي لك الصورة وافية نقية لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، ولا يشذ عنها شيء من عناصرها وكمالها، كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه، كما قال الإمام أبو بكر الباقلاني:«محاسن تتوالى، وبدائع تترى».
ولنزيدك إيضاحا في هذا فخذ ما شئت من القرآن، واحص كلماته عدّا، ثم احص مثل عددها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن المصحف، وانظر ما حواه هذا الكلام من المعاني، وقايسه إلى ذلك، ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها من غير القرآن أو يمكن أن تبدلها بأخرى غيرها دون إخلال بغرض قائله؟ وانظر مقابل ذلك أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من القرآن؟؟ لما وجدت لذلك سبيلا في القرآن، بل إن كتاب الله تعالى- كما