لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوّا في جانب، وقصورا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور في نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيّا أو رشدا، وأن يكون حقيقة أو تخيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة، وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت هذا ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرّغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟