الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
قال تعالى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(البقرة: ٢٨٥) أي: نحن مؤمنون بالرسل جميعًا، لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن مَن آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}(النساء: ١٥٠، ١٥١) فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به، وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافرًا بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول جاء بتصديق المرسلين كلهم فكان كافرًا حقًّا، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
دلائل نبوة الأنبياء
دلائل نبوة الأنبياء كثيرة متنوعة:
يقول صاحب (العقيدة الطحاوية): والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كراماتِ الأولياء، وكذلك أنكروا السحر وغير ذلك.
ولا ريبَ أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما يعرب عنهما وتُعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة! وما أحسنَ ما قال حسان -رضي الله عنه-:
لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخير
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب وغلبت الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أمورًا يبين بها صدقه، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه وما يفعله ما يبين بها كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيَا أمرًا أحدهما صادق والآخر كاذب لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدةٍ؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:((عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) أخرج الحديث من حديث ابن مسعود: مسلم، وأبو داود، والبخاري في (الأدب المفرد) ولهذا قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}(الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٦). .