إلا بالله، ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم، فشاء الله أن يكثروا، وأن يكون لهم أنصار وأعوان، وأن يرتكزوا على قاعدة آمنة تحميها الدولة، فلما هاجروا إلى المدينة المنورة أُذِنَ لهم بالقتال، بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم، فهنا كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر؛ امتثالًا للأمر، وخضوعًا للقيادة، وانتظارًا للإذن.
ب- وقد كان العرب في الجاهلية شديدو الحماسة، لا يصبرون على الضيم، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة والخفة للقتال عند أول داعٍ، فكان لا بد من تمرينهم على تحمُّل الأذى، والصبر على المكاره، والخضوع لأمر القيادة العليا؛ حتى يقع التوازن بين الاندفاع والترويّ، والحمية والطاعة، في جماعة هيأتهم إرادةُ الله لأمر عظيم.
ج- البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة، وكان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم الأبطال الشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين، مما يثير النخوة، ويحرك القلوب نحو الإسلام، حصل بالفعل في المحاصرة في الشِّعب عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم؛ لكي يتخلّوا عن حماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- واشتد الاضطهاد على بني هاشم؛ لمّا حصل ذلك ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة، وانتهى ذلك الحصار المشئوم.
د- كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم؛ ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى الشرك والضلال، فلو أُذِنَ للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يوم ذاك؛ لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت، فلما حدثت الهجرة، وانعزلت الجماعة، أبيح لهم القتال.