وأمّا السنة: فثبت ((أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر استأجرَا رجلًا من بني الدَّيْل هاديًا خريتًا)) والخريت: الماهر بالهداية، هذا الحديث أخرجه البخاري.
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:((قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خَصمهم يوم القيامة: رجل أعطَى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يوفّه أجره)).
والأخبار في هذا كثيرة.
وأجمع أهل العلم في كلّ عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلّا ما يُحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنّه قال: لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر، يعني: أنه يعقد على منافع لم تخلق، وهذا غَلَط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار، وصار في الأمصار، والعبرة أيضًا دالة عليها، فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلمّا جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك، فإنه ليس لكل أحد دار يملكها، ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها، ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعًا.
وكذلك أصحاب الصنايع يعملون بأجر، ولا يمكن عمل ذلك كل أحد، ولا يجد متطوعًا به، فلا بد من الإجارة لذلك، بل ذلك مما جعله الله طريقًا للرزق، حتى إنّ أكثر المكاسب بالصنائع، وما ذكره من الغرر لا يلتفت إليه، مع ما ذكرنا من الحاجة، فإن العقد على المنافع لا يمكن بعد وجودها؛ لأنها تتلف بمضي الساعات، فلا بد من العقد عليها قبل وجودها؛ كالسلم في الأعيان.