للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبرهانُ ذلكَ أنَّا لَوْ فرضنَا مسافرًا سافرَ عَلَى كرَةِ الأرضِ منْ جهةِ المشرقِ إِلَى جهةِ المغربِ، وامتدَّ مسافرَ المشيِ عَلَى كرةِ الأرضِ إِلَى حيثُ ابتدأ بالسَّيرِ وقطعَ الكرةَ مما يراهُ النَّاظرُ أسفلَ منهُ، وهو فِي سفرهِ هَذَا لم تبرح الأرضُ تحتهُ، والسَّمَاءُ فوقهُ، فالسَّماءُ التي يشهدهَا الحسُّ تحتَ الأرضِ هي فوقَ الأرضِ، لا تحتهَا، لأنَّ السَّمَاءَ فوقَ الأرضِ بالذَّاتِ، فكيفَ كانتِ السَّمَاءُ كانتْ فوقَ الأرضِ، منْ أيِّ جهةٍ فرضتهَا ...

وإذا كانَ هَذَا جسمٌ - وهو السَّمَاءُ - علُوُّهَا عَلَى الأرضِ بالذَّاتِ فكيفَ منْ لَيْسَ كمثلهِ شيءٌ وعلُوُّه عَلَى كلِّ شيءٍ بالذَّاتِ كَمَا قَالَ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: ١]، وقدْ تكرَّر فِي القرآنِ المجيدِ ذكرُ الفوقيَّة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: ٥٠]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: ١٠]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: ١٨].

لأنَّ فوقيَّتهُ سُبْحَانهُ وعلوَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ ذاتيٌّ لهُ، فهو العليُّ بالذَّاتِ، والعلوُّ صفتهُ اللائقةُ بِهِ كَمَا أنَّ السُّفولَ والرسوبَ والانحطاطَ ذاتيٌّ للأكوانِ عنْ رتبةِ ربوبيَّته، وعظمتهِ، وعلوِّهِ. والعلوُّ والسُّفولُ حدٌّ بينَ الخالقِ والمخلوقِ يتميَّزُ بِهِ عنهُ. هو سُبْحَانهُ عليٌّ بالذَّاتِ، وهوَ كَمَا كانَ قبلَ خلقِ الأكوانِ، ومَا سواهُ مستقلٌ عنهُ بالذَّاتِ. وهوَ سُبْحَانهُ العليُّ عَلَى عرشهِ، يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرضِ، ثمَّ يعرجُ الأمرُ إليهِ، فيحيي هذا، ويميتُ هذا، ويمرضُ هذا، ويشفي هذا، ويعزُّ هذا، ويذلُّ هذا، وهو الحيُّ القيُّومُ القائمُ بنفسهِ، وكلُّ شيءٍ قائمٌ بِهِ (١).


(١) رسالة فِي «إثبات الاسْتِوَاء والفوقية» (ص٣٢ - ٨٤).

<<  <   >  >>