للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرابعُ عَشَرَ:

أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ نفسَهُ بأنَّهُ بيَّنَ لعبادهِ غايةَ البيانِ - وبيانُ الرَّبِّ تعالى فوقَ كلِّ بيانٍ ـ، وأمرَ رسولَهُ بالبيانِ، وأخْبرَ أنَّهُ أنْزلَ عليهِ كتابهُ ليبيِّنَ للنَّاسِ، وقدْ فعلَ سبحانهُ مَا عليهِ، وفعلَ رسولُهُ ما عليهِ، فماذا نشأَ بعدَ ذلكَ إلَّا أنْ نأتيَ بمَا علينا، كما قال الزهْريُّ: «مِنَ الله الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغُ، وعَلَيْنَا التَّسْليمُ» (١) فهذا البيانُ الذي تَكَفَّلَ بهِ سبحانهُ، وأمرَ بهِ رسولهُ، إمَّا أنْ يكونَ المرادُ بهِ بيانَ اللَّفظِ وحدهُ، أو المعْنى وحدهُ، أو اللَّفظِ والمعْنى جميعًا، ولا يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ بيانَ اللَّفظِ دونَ المعْنى، فإنَّ هذا لا فائدةَ فيهِ، ولا يحْصلُ به مقْصودُ الرسالةِ (٢)، بل كانَ ترْكهُ أنْفعَ مِنَ الاتيانِ بهِ؛ فإنَّ الاتيانَ بهِ إنَّما حصلَ منهُ إيهامُ المحالِ والتَّشْبيهِ، وأوْقعَ الأمَّةَ في اعْتقادِ الباطلِ. ولا ريبَ أنَّ هذا إذا نسبَ إلى آحادِ النَّاسِ كانَ ذمُّهُ أقْربَ مِنْ مدْحهِ؛ فكيفَ يليقُ نسبتهُ إلى مَنْ كلامهُ هدًى وشفاءٌ، وبيانٌ ورحمةٌ؟ هذا منْ أمْحلِ المحالِ (٣)؛ بلْ كانتْ عنايتهُ ببيانِ المعْنى أشدَّ منْ عنايتهِ ببيانِ اللَّفظِ، وهذا هوَ الذي ينْبغي، فإنَّ المعْنى هو المقْصودُ، وأمَّا اللَّفظُ فوسيلةٌ إليهِ ودليلٌ عليهِ، فكيفَ تكونُ عنايتهُ بالوسيلةِ أهمَّ منْ عنايتهِ بالمقْصودِ؟ وكيفَ نتيقنُ بيانَهُ للوسيلةِ، ولا نتيقنُ بيانهُ للمقْصودِ؟ وهلْ هذا إلَّا منْ أبينِ المحال؟!

الخامسُ عَشَرَ:

أنَّ الله سبحانه وتعالى ذمَّ المحرِّفينَ للكلمِ، والتَّحريفُ نوعان: تحريفُ اللَّفظِ، وتحريفُ المعنى.


(١) أخرجه البخاري (٦/ ٢٧٣٨) تعليقًا [طبعة دار ابن كثير، الطبعة الثالثة].
(٢) الصواعق (ص٧٣٧).
(٣) مختصر الصواعق (٢/ ١٤٥).

<<  <   >  >>