ذاته صورته الحميمة، وأمده بالمعايير الأساسية للحكم على الأفراد والأشياء، وانطبع على مصيره .. ومن جراء هذه الاعتبارات ذاتها، فهو لا يمثل بالنسبة إليه أيَّ إلْغازٍ، ولا يضع أمامه أيَّ معضل يضايقه. فهذا الحاج المسلم، لا يكاد ينتبه إلى الطوابير التي تجمع أطلال هذا العالم، وتحملها بعيداً، لتهيئ مكاناً لطرقات جديدة، وحركة مرور أخرى، ولإيقاع حياتيّ جديد كذلك.
ولكنه إذا ما اقتادته الصدفة في نفس صبيحة هذا اليوم، خارج دائرة حي الأزهر، ودفعت به خطاه إلى المدينة الحديثة .. اختلفت انطباعاته شيئاً فشيئاً - وبطريقة غير محسوسة- باختلاف الزخرف الجديد. إنه في محيط آخر، قد رأته عيناه في أمكنة أخرى، ولكن وعيه لما يتمثله بعد. فرجلاه تنضويان تقدُّمياً، في عالم يتبدَّى له منه: أن قلبه وفكره ووعيه، لما تصل إليه بعد كلية. ويستشعر ارتساماته، ومشاعره وأفكاره، تتبدل في لونها. فهو في عالم من الأشياء، والأشباح، والمظاهر، التي تراها باصرتاه، ولا تعتدها بصيرته بعد تماماً. إنه المحيط الجديد، الذي يُؤَطِّرُ حياته، ولكن (أناهُ) لم تتقبله بعد في (إنَّيَّتِهِ) أو ذاتيته، ولا تمثلت بنوده، ومواضعاته، ولا عرفت مقاييسه ومعاييره؛ وإن لغته لتبدو له غريبة كذلك، فالمرأة المرتدية (للشوال)، يذكره رداؤها عرضاً بغرابته، فهو يحس بطريقة غامضة، أن بينه وبين هذا العالم، تخلُّفاً وانقطاعاً معيَّنين، من غير أن يعرف بالضبط، كيف يحدد سببهما الحقيقي. فهذه الجولة الصباحية أو المسائية في أحياء القاهرة، تلخص على نحو من الأنحاء، بالنسبة إلى الحاج المسلم، تاريخه الاجتماعي الخاص. فقد ولد في عالم أخذت عربات النقل تحمل منه آخر بقاياه! ..
وإذا ما اقتادته جولته إلى (ميدان التحرير)، فإن حب استطلاعه سيستوقفه أمام بناية (المجمَّع)، التي تهيمن كل الميدان بأدوارها الثلاثة عشر. ثم ينزلق بصره نحو المسجد الصغير، الذي يبرز بشبحه الأنيق، محاذياً لكتلة البناية