[الصراط وأدلة ثبوته ووجوب الإيمان به]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا الصراط يمد فوق جهنم فمسلم ناج وآخر مهمل].
الصراط في اللغة: الطريق، يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:١٥٣]، ويقول عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] يعني: الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، والمراد به هنا هو الجسر الذي يكون على جهنم، وهو أن الله عز وجل بعد الموقف يحاسب العباد ثم يمرون عليه، أما الكفار فإنهم يسحبون إلى جهنم، وأما أهل الإسلام من كل الأمم فيمرون على هذا الصراط، وبعد الصراط يكون الحوض، وبعد الحوض تكون الجنة.
وقد ثبت الصراط في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:٧١ - ٧٢]، هذه الآية جاءت في الصراط، فإن قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) يعني: وارد هذه النار، وهذا الورود يكون من فوق الصراط، فكل الناس يمرون على هذا الصراط، بما فيهم الأنبياء الكرام؛ ولهذا يكون كلامهم: (اللهم سلم سلم).
وقد ورد في صحيح مسلم من حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يلج أحد بايع تحت الشجرة)، يعني: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، (فقالت له حفصة: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١]، قال: ألم تقرئي بعد ذلك: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:٧٢]؟).
فهذا يدل على أن حفصة رضي الله عنها فهمت من هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١] مرور هؤلاء على النار من فوق الصراط، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الفهم، لكنه بين أن المرور والورود لا يعني التعذيب؛ لأن أهل الإيمان ينجيهم الله سبحانه وتعالى من النار وإن كانوا يمرون عليها.
وقد ورد ذكر جسر جهنم في صحيح البخاري، في باب الصراط جسر جهنم، في كتاب الرقاق، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في حديث طويل في ذكر الشفاعة.
وموطن الشاهد الذي يعنينا في موضوع الصراط قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضرب جسر جهنم، قال: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، يقول: وبه - يعني: بهذا الصراط - كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو)، والمراد بكلمة المخردل يعني: المقطع، الذي قطعه الصراط؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الصراط أنه قال: (لجهنم جسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله، والناس عليه كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب - يعني: الإبل - والملائكة يقولون: سلم سلم، فناج مسلم، ومخدوش مسلم - يعني: سالم من النار وإن كان أصابه خدش وقطع -، ومكردس في النار على وجهه)، ومعنى مكردس يعني: مجموعة يداه ورجلاه وهو يلقى في نار جهنم.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند وفي إسناده ابن لهيعة، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن الراوي عن ابن لهيعة هو يحيى بن إسحاق، وقد روى عنه قديماً قبل الاختلاط؛ لأن عبد الله بن لهيعة كان قاضياً في مصر، واحترقت كتبه، وكان ضبطه من كتبه، فلما احترقت كتبه، أصبح يملي من حفظه فيخلط، فمن روى عنه قبل احتراق كتبه التي كانت في مصر في تلك الفترة فإن روايته قوية، ومن لم يرو عنه إلا بعد احتراق كتبه، فإن روايته ضعيفة وليست مقبولة.
إذاً: فالصراط من القضايا الواردة في أوساط اليوم الآخر ويوم القيامة، ويجب الإيمان به، وقد أنكر الصراط طوائف من أهل الاعتزال والخوارج وبعض الشيعة؛ لأنه لا يتوافق مع معقولاتهم، ولهم ضلال كبير في باب السمعيات، والمقصود بباب السمعيات: هو الباب الذي يتلقى منه الأخبار الواردة من القرآن والسنة، وليس للعقل فيه مجال، فهم يريدون أن يجعلوا هذه المسائل من المسائل المعقولة؛ ولهذا وقعوا في ضلال كبير.