للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معنى إمرار الصفات كما جاءت في الكتاب والسنة]

المسألة الثانية: معنى إمرارها.

يقول ابن تيمية: (وجميع آيات الصفات أمرها) ومعنى أمرها يعني: أثبتها كما جاءت في القرآن، فإنها جاءت مثبتة، أو أنفي ما نفاه الله عز وجل عن نفسه إذا جاءت منفية، وهذا هو الإمرار، ومثال ذلك قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤]، وقول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، هذه الأدلة أمرها على الصيغة التي جاءت بها، فمثلاً: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) جاءت بصيغة الإثبات، وهو إثبات استواء الله على عرشه، فأمرها بإثبات استواء الله على عرشه.

وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤]، أمرها بنفي الكفؤ والند والمثيل لله عز وجل.

وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) أمرها بإثبات اليدين لله سبحانه وتعالى.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) أمرها بإثبات النزول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبته، وهذا هو الإمرار.

إذاً: الإمرار يقتضي إثباتها.

الأمر الثاني: أن الإمرار يقتضي فهمها على معنى لغة العرب، في الحديث (فينزل ربنا إلى السماء الدنيا) النزول في لغة العرب مفهوم وهو الحركة من أعلى إلى أسفل، لكن لا يمكن أن نتخيل صفة النزول؛ لأن الإله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، ونحن لا نعرف حقيقة صفاته، ولهذا نحن نمرها ونفهم معانيها كما جاءت في لغة العرب، وهناك فرق في لغة العرب بين العلم وبين السمع والبصر وهذا أمر معروف في لغة العرب، وهناك فرق بين النزول وبين الاستواء، لكن الإمرار لا يقتضي معرفة الكيفية، فالإمرار بمعنى: نثبتها كما أثبتها الله ونفهمها كما وردت معانيها في لغة العرب؛ لأن الله خاطبنا بلغة العرب، لكن لا نفهم الكيفية، فصفات الله عز وجل لها كيفية في نفس الأمر نحن لا نعلمها؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا بكيفية هذه الصفات ولم يقل لنا: إنها تشبه كذا، بل نفى أن تشبه أي شيء من صفات المخلوقات، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:٢٢]، كل هذه الآيات تقتضي نفي مشابهة صفات الله لصفات المخلوقات أياً كانت هذه المخلوقات مع تنوعها واختلافها.

ولهذا فإن الإمرار يقتضي ثلاثة أمور: يقتضي الإثبات، ويقتضي فهمها على لغة العرب؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بلغة العرب، وأخبر أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والأمر الثالث يقتضي ألا نعلم كيفية هذه الصفات مع أن لها كيفية في نفس الأمر، لكننا نجهلها، ولهذا لما جاء الرجل إلى الإمام مالك فقال له: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ فسأل عن الكيفية ولم يسأل عن المعنى، ولو قال له: ما معنى استوى؟ لقال: معناه علا، وارتفع، وجلس، فلم يسأل عن المعنى ولكن سأل عن كيفية الاستواء، فأطرق الإمام مالك وعلته الرحضاء -وهو العرق- من ضخامة هذا السؤال فقال له: الاستواء معلوم، يعني: معروف معناه في لغة العرب، والكيف مجهول -يعني: مجهول بالنسبة لنا، لكن هذا يعني أن لها كيفية لكن نحن لا نعلمها- والإيمان به واجب -لأن الله أخبرنا بذلك- والسؤال عنه بدعة؛ لأنه سؤال عن أمر لا يعلمه إلا الله ولم يعهد أن الصحابة سألوا عن هذا الأمر الذي لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: أخرجوه فلا أراك إلا مبتدعاً، وهذا التفصيل في معنى الإمرار يرد على مذهب المفوضة، وهم الذين يقولون بتفويض الصفات فلا نعرف معناها ولا كيفيتها، والفرق بين مذهب السلف ومذهب المفوضة هو أن السلف يقولون: نحن نفهم معاني الصفات لكن لا نعرف الكيفية، أما المفوضة فإنهم يقولون: نحن نفوض المعنى والكيفية، والحقيقة أن مذهب التفويض في أساسه نشأ في بيئة التعطيل، والمقصود بالمعطلة هم الذين ينفون الصفات، فالمفوضة والمعطلة اجتمعوا في نفي المعنى الحقيقي للصفات، ثم اختلفوا في معنى الآية، فالمؤلة قالت بالتأويل والمفوضة قالت بتفويض هذا الأمر إلى الله عز وجل وقالوا: لا نعرف لها معنى، فعطلوا جميعاً الصفة، فالمفوضة والمؤلة نفاة، فهم يقولون في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى): أن الاستواء بمعناه اللغوي غير صحيح، ثم اختلفوا في معنى (استوى)، فقالت المؤولة: معناه استولى، وقالت المفوضة: لا ندري، ونسبوا هذا التفويض إلى مذهب السلف، ونسبوا هذا التأويل إلى مذهب الخلف وقالوا مقالة مشهورة: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم، ويقصدون بمذهب السلف التفويض مع نفي الصفة -هذا سلفهم ليس سلفنا- وقالوا: مذهب الخلف أعلم

<<  <  ج: ص:  >  >>