للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اتفاق الأئمة الأربعة في باب الاعتقاد]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا اعتقاد الشافعي ومالك وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل].

يعني: أئمة السنة كالأئمة الأربعة المتبوعين فإن عقيدتهم واحدة، فهم متفقون في باب الاعتقاد، لأن هذه القضايا التي هي قضايا العقيدة، مثل: باب الصفات، وباب الصحابة، وباب الإيمان، وباب الكفر، وباب الألوهية وغيرها من الأبواب العقدية، هي أبواب متفق عليها ومجمع عليها، وليست من مواطن الاختلاف، وإنما وقع الاختلاف بين العلماء في المسائل الفرعية الاجتهادية، في مسائل الحلال والحرام، وفي مسائل الطهارة والصلاة والغسل والبيوع وبعض أحكام المعاملات، وبعض أحكام العبادات.

فهذه من الأمور التي وقع فيها الخلاف بينهم، ولم يقع الخلاف بينهم لذات الخلاف، وإنما وقع الخلاف بينهم؛ لأن بعضهم قد يبلغه الحديث، وبعضهم قد لا يبلغه، وبعضهم يبلغه الحديث ويكون ضعيفاً عنده، لكنه عند غيره يكون صحيحاً، وبعضهم قد يبلغه الحديث لكنه يفهمه بطريقة مختلفة عن الطريقة الأخرى التي يفهمه بها ذلك العالم، فقد يرد في الحديث أمر يفهمه شخص على وجه الإلزام، ويفهمه آخر على سبيل الإرشاد، وهذه الاختلافات هي من سنة الله في الكون، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨ - ١١٩]؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، ولهذا عندما يختلف العلماء الآن في الواقع في مسائل فقهية في بعض أحكام الزكاة والبيوع، والصلاة، والنكاح وفي بعض أحكام الطلاق، مثل: هل الثلاث الطلقات تعتبر طلقة واحدة أو تعتبر ثلاثاً محققة؟ كذلك بعض المسائل مثل: مسألة اشتراط الولي هل يشترط أو لا يشترط؟ لكن أحياناً يكون الخلاف قوياً، وأحياناً يكون الخلاف ضعيفاً، ويكون الرأي الآخر شاذاً، وحينئذ تحدث العلماء في مسألة مهمة جداً: وهي عدم تتبع زلة العلماء والفقهاء، فإن العالم قد يجتهد فيقع في زلة ويخطئ، ولا يجوز للإنسان أن يتبع العالم في زلته، فإذا عرف أن قول هذا العالم مخالف للدليل الصحيح، فإنه يجب عليه أن يترك قول هذا العالم ويتبع الدليل الصحيح؛ ولهذا فإن الإمام أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كلهم قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال أحدهم: إذا وجدتم قولي يخالف الحديث الصحيح فاضربوا بقولي عرض الحائط، وهذا من تمام فقههم، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرنا باتباع أحد من أهل العلم، إلا إذا جاء بآية أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يرى وجوب التمتع في الحج، وكان يفتي بهذا، ويستدل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يفسخوا الحج ويجعلوها عمرة، وقال: إن هذه عزيمة عزم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الصحابة يرى رأي أبي بكر وعمر في نهيهم عن المتعة، فغضب عبد الله بن عباس وقال: أقول لكم: قال الله وقال رسوله وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.

إن بعض المتعصبين من أصحاب المذاهب إذا أتيته بآية صريحة من القرآن أو بحديث صريح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا لا أخالف قول الإمام، فالإمام الأعظم قال بهذه الفتوى وأنا لا أخالفه، وهذا خطأ، فإن الله عز وجل تعبدنا بالقرآن والسنة ولم يتعبدنا بأقوال العلماء -مع أن أقوال العلماء لها مكانة عظيمة- ولهذا نهى أهل العلم عن التقليد إلا للعامي الذي ليس له نظر، وحينئذ فإنه يستفتي من يثق به من أهل العلم ويطلب منه الدليل، ويتابع هذا الدليل، إلا إذا جاءه دليل صريح مخالف فإنه لا يجوز له أن يأخذ بقول هذا العالم ويترك الدليل.

مثال على ذلك: مسألة القبض في الصلاة، إذا كبر المصلي فإنه يستحب له أن يقبض في الصلاة فيضع اليمنى على اليسرى، وحديث القبض وارد في صحيح البخاري، وهو حديث صحيح صريح في المسألة، ومع هذا لا يزال بعض المتأخرين من علماء المالكية يفتون بالإسبال، فإذا احتج عليهم بحديث البخاري وأن النبي صلى الله عليه وسلم قبض يده اليسرى بيده اليمنى، يتركون هذا الحديث ويتابعون ما ينقل عن الإمام مالك، مع أنه لم يثبت عنه، وهذا من التعصب.

ومن التعصب أيضاً ما قاله الكرخي في أصوله، يقول: كل آية أو حديث جاء مخالفاً لقول إمامنا فهو إما منسوخ أو مؤول.

فالعبرة عنده قول الإمام، وهذا خطأ، فإن أهل العلم كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، اختلفوا في بعض المسائل الفقهية، إلا أنه ينبغي أن يتابع الإنسان الدليل.

أما مسائل العقيدة فالمخالف فيها ضال منحرف، إلا ما ثبت من حصول الخلا

<<  <  ج: ص:  >  >>