[إنكار المعتزلة للرؤية وأدلتهم]
أنكر الرؤية المعتزلة، وقالوا: إن الله لا يرى يوم القيامة، وإنما ترى الأجسام، والله ليس بجسم، وقد سبق: أن لفظة: (جسم) اصطلاح جديد جاء به المعتزلة، وليس مقصودهم به المعنى اللغوي الذي هو البدن، فإننا لا نثبت لله عز وجل البدن لعدم وروده في النصوص الشرعية؛ ولأنه يقتضي تمثيل الله عز وجل بخلقه، لكنهم جعلوا كل موصوف بالصفات يعتبر جسماً، فنفوا عن الله سبحانه وتعالى الرؤية، وأنه غير قابل لها.
والحقيقة: أن نفي المعتزلة للرؤية السبب الأساسي فيه هو الاستدلال بالأصول العقلية التي أصلوها في حِجاجهم مع الفلاسفة، ثم التزموا من ضمن ما التزموا به: نفي رؤية الله سبحانه وتعالى.
واستدلوا ببعض النصوص الشرعية، ولكن استدلالهم لم يأت للاعتماد بل جاء للاعتضاد، وهو موقفهم من النصوص الشرعية، فأهل الكلام لا يستدلون بالنصوص الشرعية استدلال اعتماد، وإنما يستدلون بها من باب الاعتضاد.
ومن الأدلة التي استدلوا بها على نفي الرؤية: طلب موسى عليه السلام للرؤية، ونفي الله سبحانه وتعالى لها، فإن الله عز وجل قال مخبراً عنه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣].
فاستدلوا بطلب موسى الرؤية، ونفي الله لها على أن الله لا يرى يوم القيامة، والحقيقة أن هذا الطلب كان طلباً دنيوياً، ولم يطلب موسى الرؤية يوم القيامة، وإنما طلبها في الدنيا، فنفاها الله سبحانه وتعالى وقال: (لن تراني) يعني: لن تراني في الدنيا، و (لن) لا تفيد النفي المؤبد، وإنما تفيد مطلق النفي؛ ولهذا حاولوا أن يجعلوا (لن) تفيد النفي المؤبد، فوقعوا في خطأين: الخطأ الأول: خطأ عقدي بنفي الرؤية.
والخطأ الثاني: خطأ لغوي بجعل (لن) تفيد النفي المؤبد، مع أنها تفيد عموم النفي، ولا تفيد النفي المؤبد الدائم؛ ولهذا استدل علماء السنة بهذه الآية على جواز الرؤية، فقالوا: إن موسى عليه السلام لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣]، هذا يدل على أن من المستقر عنده أن الله عز وجل يرى؛ لأنه لو كان لا يعتقد أن الله عز وجل يرى، فكيف يطلب منه الرؤية؟ ولكن ظن موسى أنه لما كلمه الله عز وجل في الدنيا أنه بإمكانه أن يراه في الدنيا أيضاً، فنفى الله عز وجل إمكانية رؤية موسى له في الدنيا.
وأيضاً استدلوا بقول الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣]، فقالوا: إن الله عز وجل لا تدركه الأبصار، وظنوا أن هذا يدل على نفي الرؤية عن الله سبحانه وتعالى، وهذا فهم باطل؛ فإن النفي في هذه الآية هو للإدراك، والإدراك معناه الإحاطة، فالله عز وجل لا تدركه الأبصار، بمعنى: لا تحيط به، ولكن لا يعني: أنها لا تره، بل تراه سبحانه وتعالى لكن لا تدركه.
والحقيقة: أن اجتماع الرؤية مع عدم الإدراك واقع حتى في أمور الدنيا، فأنت عندما تنظر إلى السماء تراها، لكن لا تدرك هذه السماء لسعتها وكبرها وعظمتها، فأنت إذا نظرت إلى السماء فلا يعني هذا أنك أحطت بالسماء من كل أطرافها؛ لأن هناك طرفاً منها بعيداً، والإنسان أصغر من أن يحيط بهذه السماء الكبيرة التي هي أعظم من الأرض، ومن المجموعة الشمسية، وغيرها من المجرات الأخرى.
فعندما نقول: إن الله يرى لكن لا يدرك.
هذا أمر منطقي معقول حتى في الأمور الدنيوية، حتى على مستوى غير السماء، كالبحر مثلا: أنت عندما تقف على شاطئ البحر وتنظر إليه، تعتبر نظرت إليه، لكنك لم تحط بالبحر بأكمله.
فهو كبير وعظيم، فهناك أطراف من البحر بعيدة لم يقع عليها نظرك، لكن هل معنى عدم الإحاطة بالبحر كله أنك لم تره؟ لا.
ولهذا أخذ العلماء من نفي الإحاطة والإدراك في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣]، دليل إثبات الرؤية؛ لأن نفي الإدراك يدل على أن هناك رؤية، ثم حصل نفي الإدراك، حتى لا يظن الرائي أنه أدرك المرئي، ولو لم يكن هناك رؤية لكان النفي واقعاً على الرؤية؛ لأن الرؤية هي المقدمة للإدراك، فإذا نفى الإدراك فمعنى هذا: أنه يتضمن إثبات الرؤية بدون إدراك، فلو كانت الرؤية مستحيلة لكان النفي لها وليس للإدراك.
وهذا من أبلغ الأدلة التي استدلوا بها، وليس فيها دليل على ما ذهبوا إليه، بل الأدلة فيها لأهل السنة الجماعة.
وممن نفى الرؤية الشيعة والخوارج والإباضية، وقد سبق أن الخليلي له كتاب اسمه: الحق الدامغ، بناه على ثلاثة مسائل، منها: نفي رؤية الله سبحانه وتعالى.