للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الكلام على التأويل وبيان أنواعه وحكم كل نوع]

يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأقول قال الله جل جلاله).

قال الله يعني: يصح أن ينسب الإنسان القول إلى الله سبحانه وتعالى، ومقتضى القول: أن الله تكلم بما قاله، فإن القول يكون بالحرف والصوت.

وأقول قال الله جل جلاله المصطفي الهادي ولا أتأول.

المصطفي: هو الذي اصطفى من شاء من الخلق سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢].

والهادي من أسماء الله سبحانه وتعالى، ولا أتأول يعني: لا أحرف معاني القرآن ومعاني السنة النبوية على خلاف معناها، والتأويل مصطلح له معنى شرعي صحيح ثم استعمله أهل الباطل والتعطيل بمعنى فاسد، فأما المعنى الشرعي الصحيح للتأويل فهو دائر بين أمرين: الأمر الأول: أن يكون بمعنى التفسير.

والأمر الثاني: أن يكون بمعنى حقيقة الشيء.

ولهذا جاء في حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)، قالت عائشة رضي الله عنها: يتأول القرآن، تعني: يأتي بحقيقته، وأيضاً جاء في آية التأويل الطويلة في سورة آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]، والمقصود بالتأويل هنا: حقيقة الشيء، فلا يعلم حقائق الأشياء كما هي إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الوقف في هذه الآية خلاف مشهور بين أهل العلم، ويختلف معنى التأويل بناء على الوقف، في قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]، فالوقوف على لفظ الجلالة معناه أن التأويل يكون بمعنى حقيقة الشيء، وحينئذ يكون الراسخون في العلم لا يعلمون حقائق الأشياء، وأما إذا تم الوصل: {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧] فإن التأويل يكون حينئذ بمعنى التفسير، ولهذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، على معنى أن التأويل هنا بمعنى التفسير، إذاً فالتأويل يأتي بمعنى التفسير، ويأتي بمعنى حقيقة الشيء، فحقيقة الشيء لا يعلمها إلا الله، والتفسير يعلمه الراسخون في العلم، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عباس ترجمان القرآن فقال: (اللهم علمه التأويل)، وتفسير الطبري المشهور اسمه (جامع البيان في تأويل آي القرآن) فتأويل يعني: تفسير، فهذا معنى التأويل عند أهل السنة وفي المصطلح الشرعي.

وأما التأويل عند المتأخرين فإنه أخذ مفهوماً باطلاً وهو التحريف، فإنهم قالوا: إن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى ظاهره المرجوح لوجود قرينة، فكل لفظ عندهم جعلوا له ظاهراً راجحاً وظاهراً مرجوحاً، فإذا كان هذا الأمر لا يوافق أهواءهم صرفوه من معنى إلى معنى آخر ويزعمون أن هناك قرينة، فمثلاً أولوا صفات الله سبحانه وتعالى وقالوا: إن إثبات الصفات يقتضي التشبيه بالمخلوقات كما سيأتي معنا، وأولوا كل النصوص الشرعية الواردة في إثبات الصفات، فجاءوا مثلاً إلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] أو {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] فقالوا: ليس المقصود باليد هنا اليد الحقيقية، وإنما معناها: النعمة، فاليد كلمة تستخدم تارة في اليد الحقيقية، وتستخدم تارة بمعنى النعمة، فقالوا: إذاً يراد بهذه الآية النعمة وليس اليد الحقيقية، وصرفوها عن اليد الحقيقية لوجود قرينة، والقرينة أن إثباتها بمعنى اليد الحقيقية يقتضي التشبيه.

قلنا: ومن قال: إنها تقتضي التشبيه؟ ثم إذا صرفتموها إلى النعمة فهي أيضاً تقتضي التشبيه، فتصبح نعمته مثل نعمة خلقه، فللخلق نعمة وللخالق نعمة، ولهذا يجب أن يفرق بين أسماء الله وصفاته وبين صفات خلقه منذ البداية، فنثبت كل ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات وننفي عنها مشابهة ومماثلة المخلوقات، وسيأتي تفسير ذلك وبيانه بإذن الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>