للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[إثبات الميزان]

يقول: (وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل) رِياً ورَياً بالكسر وبالفتح.

في هذا البيت مسألتان: المسألة الأولى: إثبات الميزان: والحديث في الميزان والصراط والحوض والحساب والجنة والنار، داخل في باب الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الأخر يشمل الإيمان بالبعث والحشر وبما يحصل في عرصات يوم القيامة، وبالصراط والميزان والحساب، والجنة والنار ونحو ذلك.

قال: (وأقر بالميزان) يعني: أعتقد عقيدة جازمة بالميزان، والميزان هو ميزان حقيقي له كفتان، وقد ورد ذكر الموازين في القرآن في آيات كثيرة، منها: قول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠٢ - ١٠٣].

وهناك أدلة كثيرة على وزن الأعمال، وعلى إثبات الميزان.

والميزان ميزان حقيقي له كفتان، والدليل على أن له كفتان: الحديث الصحيح في قصة صاحب البطاقة الذي يأتي به الله عز وجل يوم القيامة أمام الخلائق، وينشر له تسعة وتسعين سجلاً ويقرره بها، فيقر بها، ثم يقول: هل عملت شيئاً غيرها؟ فيقول: لا، فيقول الله عز وجل: إن لك عندنا بطاقة، فتوضع التسعة والتسعين في كفة والبطاقة في كفة، فترجح بها هذه البطاقة، وينجو صاحب هذه البطاقة من النار.

هذا حديث صحيح مروي في مسند الإمام أحمد والترمذي وعند بعض أصحاب السنن وإسناده صحيح.

وورد حديث في إسناده ضعف -وإن كان له شاهد قد يقويه- وهو: (أن موسى قال لله عز وجل: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون ذلك، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأراضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله)، لكن لا يشترط أن يكون هذا هو الميزان الذي نحن في صدد الحديث عنه، وإنما الميزان الذي نحن نتحدث عنه هو الميزان الذي توزن به أعمال الناس.

وهنا مسألة وهي: ماذا يوزن في هذا الميزان؟ هل الأعمال توزن فقط، أو سجلات الأعمال، أو أصحاب الأعمال، أو ذلك كله؟ قال بكل واحدة من هذه الآراء السابقة قوم، والصحيح: أنه يحصل ذلك كله، فأما وزن السجلات فقد سبق في حديث صاحب البطاقة، وأما وزن الأعمال فقد جاء في الحديث الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وفي الحديث: (والحمد لله تملأ الميزان)، هذا يدل على أن الأعمال توزن أيضاً.

ومما يدل على أن الإنسان يوزن: الحديث المشهور: (إنه يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، وذلك هو معنى قول الله عز وجل: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٥]، هذا الرجل مع أنه عظيم في الدنيا، وسمين في حجمه، إلا أنه لا يزن عند الله جناح بعوضة.

ومما يدل أيضاً على أن الناس يوزنون: حديث ابن مسعود رضي الله عنه عندما كان متسلقاً شجرة، فحركت الريح ثوبه فكشفت عن ساقيه، فضحك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لهي في الميزان أثقل من جبل أحد)، وهذا يدل على أنها توزن.

فالوزن يكون للسجلات التي تكتب فيها الأعمال، ويكون للأعمال وللأشخاص أيضاً.

وبالنسبة لثقل هذه الأعمال وخفتها فهو بناء على ما فيها من الإخلاص وموافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأعمال تتفاوت تفاوتاً عظيماً، فقد يتفق أشخاص في صورة العمل لكن تختلف حقيقة الأعمال، فقد يجتمع رجلان في صف واحد في الصلاة، أحدهما صلاته مقبولة والثاني صلاته مردودة، وقد يجتمعان أحدهما لا يكتب له من صلاته إلا ربعها، والآخر كتب له ثلثها، والآخر كتب لها نصفها، وربما يكون آخر كتبت له كاملة بحسب إخلاصه، وحضور قلبه، وموافقته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أنكر المعتزلة والخوارج الميزان، وقالوا: كيف توزن الأعمال وهي أعراض، وإنما توزن الأجسام؟ وليس في هذا ما يدعو إلى نفي الميزان، فإن هذه الأعراض -التي هي أعمال- يصيرها الله عز وجل أجساماً توزن، ولا مانع من وزن الأعمال، ولكن هؤلاء جعلوا لهم قاعدة وهي: أن كل ما لا يوافقه العقل فهو مردود، فظنوا أن هذا مما لا يوافقه العقل، فردوه بناء على ذلك.

وقال بعض الزنادقة: ما الفائدة في وزن الأعمال؟ وما هي الحكمة من وزن الأعمال؟ وهل ربنا سبحانه وتعالى بقالاً أو فوالاً حتى يحصل الوزن؟! ولا شك أن هذا من الزندقة

<<  <  ج: ص:  >  >>