مثل هذا، إلى زعم أن محمدا إنما يأتيهم بسحر ... أو كهانة ... أو شعر فريد في بابه، كما قال الله تعالى عنهم: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (الزخرف: ٣٠).
ثم إن آيات التحدي هذه ظلت مسجلة في كتاب الله تعالى تقرع آذان العلماء والأدباء والشعراء والبلغاء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم في كل عصر وقرن. فما استطاع واحد فيهم أن يسجّل إلى جانب هذا التحدي عملا ما يصلح أن يقال إنه قد عارض به القرآن فأتى بشيء حسن.
فهذا الواقع، من أجلى أدلة التجربة والمشاهدة على ثبوت صنعة الإعجاز للقرآن. إذ هو دلالة الواقع نفسه خلال التاريخ والقرون.
على أننا ندعم هذا البرهان بميزان الاستقراء التام الدّال على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام غير الله عزّ وجلّ فنقول:
إن عجز العرب كلهم عن الإتيان بمثل القرآن، دليل جليّ على أنه لا يمكن أن يكون من تأليف أحد منهم كورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، أو غيرهما ... إذ إن الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلّت عليه التجربة المشاهدة، على أن القرآن فيه تعليق على أحداث وقعت بعد موت ورقة وبحيرة، فكيف يكون مع ذلك من إيحائهما أو تأليفهما.
ونمضي في الاستقراء والبحث، فنفرض أنه موحى به إليه صلّى الله عليه وسلّم من قبل الجن ما دام أن الدليل قام على أنه ليس من كلام البشر.
غير أن هذا الفرض أيضا يستلزم نتائج باطلة تكشف عن بطلانه.
فالجان الذي يفرض أنه أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم بهذه الألفاظ، لا يوحي بها إليه إلا وهي مما يقدر الجن على إيجاد مثله. وليس ممكنا أبدا أن لا يقوم في وجه هذا المخلوق الجنّي أحد من أمثاله، يوحي بقرآن مثله حلال هذه القرون كلها إلى واحد من هؤلاء الناس الذين يشتهون أن يؤلفوا مثله، فلا يستطيعون هذا مع العلم بأن الله تعالى، كما تحدى بالقرآن الإنس، تحدى به الجن أيضا، فقال عزّ وجلّ: