إنّه يدّعي الربوبية، ويزعم أن لا إله لهم غيره، ثم يطلب من هامان أن يوقد على الطين، فيجعل له منه برجا عاليا يصعد عليه ليبحث من هناك عن إله موسى! ... فانظر كيف صوّر القرآن بشرية فرعون التي فرضت نفسها على كلامه لتكذبه فيما يزعم ولتسخر من عظم دعواه أمام ضآلة ذاته، صوّر ذلك في قوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ... يدّعي الربوبية ويريد الصعود إلى أجواء السماء ثم لا يرى سبيلا إلى ذلك إلا أن يستعين بالطين وأسباب الطين ...
إن الذي يضطر إلى الاستعانة بالطين، فيما يسعى إلى تحقيقه، لا يمكن إلا أن يكون ذلك المخلوق الضعيف الذي خلق من طين.
ثم إنه يقول: لعلّي أطلع إلى إله موسى، ولعلّ أداة رجاء. والرجاء من أبرز دلائل الضعف وتقاصر القدرة. ذلك لأن الذي يرجو شيئا، إنما يظهر تعلق قلبه وانصراف نفسه إليه دون أن يستيقن أنه قادر على بلوغ فعله. إذ كانت رغبته فيه أقوى من قدرته عليه، فهو يعلّل نفسه بالأمل.
إنّ الرب الحقيقى أجلّ من أن يكون على هذه الحال، ولكنها الفطرة البشرية تأبى إلّا أن تفرض نفسها على لسان صاحبها، سواء أكان مؤمنا أم كافرا، متجبرا كان أم متألها.
فهذا الجانب من الإعجاز القرآني، لا يتوقف إدراكه أو الشعور به على سعة علم أو ثقافة أو بلاغة. بل لا بدّ أن يتنبه إليه كل متدبر لتلاوة القرآن متأمل فيما يقرأ، مهما كانت ثقافته ودرايته. غير أنه قد لا يحسن التعبير عمّا يشعر به، ولا يقدر على تحليله وشرح أسبابه.
وإذا رأيت من إذا تلا القرآن تأثر به قائلا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن بشر، فاعلم أنه متفاعل مع هذا الوجه الأخير الذي فرغنا من شرحه وتحليله.