وكلام القرآن، لا يعثر على هذا السبيل في الخطاب اتفاقا؛ أو بأن يتهيأ له سبيل إلى تشبيه أو استعارة أو مجاز، حتى إذا تجاوز ذلك عاد إلى النسق المألوف والكلام المعتاد. بل هو في القرآن نسق مطّرد، وطريقة متبعة، وسبيل عرفت به وعرف بها؛ سواء كان يأمر وينهى، أو يخبر ويقصّ، أو يعلّم ويشرّع، أو يتحدث عن غيب أو يحذر من عذاب.
وسرّ العجب والإعجاز في ذلك، كلّ من حقيقتين اثنتين:
الأولى: أن المعاني، في حقيقتها، ليست إلا مجردات اعتبارية، يهضمها ويدركها العقل وحده. فتحوّلها إلى صورة مما تألفه العين ويدركه الشعور والخيال، مما لا يقدر عليه الإنسان إلا في حدود ضيقة وبالنسبة لمعان معينة.
الثانية: أن الألفاظ، ليست إلا حروفا صوتية جامدة، فتحولها إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة المطلوبة لتحيل المعنى إلى صورة في لوحة يتأملها الخيال، بل تكاد أن تدركها العين قبل أن يستوعبها العقل- أمر لا يقوى عليه شيء مما نسمّيه المجاز أو البلاغة والبيان.
ومع ذلك فإن لكلّ من المعنى واللفظ في القرآن شأنا آخر! ...
فليست المعاني في القرآن مجردات اعتبارية لا يدركها إلا العقل، وإنما هي صورة حيّة تمرّ بخيال القارئ، ويلمسها إحساسه، وتكاد أن تراها عينه.
وليست الألفاظ في القرآن تلك الحروف التي لا تدل إلّا على المعنى، بل هي ينبوع يفيض بالصور والأحاسيس والألوان.
وآية هذا الذي نقول- قبل أن نعرض للدليل التطبيقي- أن تتذكر انطباعاتك النفسية والشعورية تجاه القرآن عند ما كنت تتلوه أو تنصت إليه في زمان طفولتك (إن كنت ممّن أتيح لهم أن يمارسوا تلاوة القرآن في عهد الطفولة)؛ فستتذكر أنه قد كانت لخيالك جولة كبرى ونشاط غريب في آفاق واسعة بعيدة أثناء تلاوته أو الإنصات إليه؛ وستردّك ذاكرتك إلى صور وأشكال وأخيلة غريبة منطبعة في خلدك، كلما قرأت شيئا من آياته.