١٢ - وربما اقتضى المشهد في بعض الأحيان أن تمثل الصورة أمام الخيال شاخصة صامتة لا حراك فيها، وذلك كما في قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (١) والمعنى المقصود لفت النظر إلى الأمم التي جاءت ومضت وتركت آثارها من ورائها. ولكنه أقام من هذه اللوحة التصويرية في الآية تعبيرا مجسما له.
وهي صورة صامتة شاخصة، تبصر فيها بيوتا خالية قد سقط بعضها على بعض ... وتبصر في جانب منها بئرا متروكة معطلة، وقصرا لا تزال فيه جدران باقية قائمة ...
ولا والله، ما تلوت هذه الآية مرة إلا ورأيتني أمام لوحة فنية رائعة صوّرتها كلمات هذه الآية في رسم معبّر نادر، يجلله صمت رهيب، تلوح عليه آثار القرون والسنين!! ...
وبعد، فهذه أمثلة قليلة، قس كلام القرآن كله عليها.
ولن نستطيع أن نفيض في بيان الأمثلة والنماذج؛ فقد التزمنا في هذا الكتاب القصد في البحث، كي يتسع المجال لعرض المسائل والبحوث الأخرى، ولو أردنا أن نستقصي الكلام في تصوير القرآن ومقوّماته ومظاهره، لجفّ المداد ونفد الورق دون أن نوفي البحث حقه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً.
فإن كنت قد ألقيت السمع إلى ما قلنا وأنت شهيد بعقلك الصافي المتحرر، وقفت على الحق في كل الذي ذكرنا، وأدركت أن نظيره مثله مما لم نقل، وأيقنت أن هذه المعجزة التي تصورت كلاما يتلى ليست مما يصوغه بشر، ولا ينبغي أن تكون مادة كذب كذب بها محمد صلّى الله عليه وسلّم على الله، بعد أن عاش أربعين عاما يتوقّى الكذب فيها على الناس.