للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عندك الكبر ... فركبت إن مع ما التي يسمّونها زائدة لتصوير المبالغة في استقصاء الظروف والأحوال، وأدخل نون التوكيد على الفعل لنفس الغرض أيضا، فأصبحت الجملة تقول لك بكلّ من جرسها ومضمونها: مهما وجدت الشيخوخة قد دبّت إلى أحد من أبويك فليكن موقفك منهما في كل الظروف والأحوال موقف الراحم الشفوق والخادم المحب.

وكان من الممكن لسلامة أصل هذا المعنى أن تستغني الآية عن كلمة «عندك» بأن تقول: إما يبلغنّ الكبر أحدهما أو كلاهما ... لولا أن «عندك» هذه تثبت في إحساس المخاطب معنى هائلا يثير فيه النزوع إلى الشفقة والرقة والعطف. فالآية تصور بهذه الكلمة كيف أن الكبر والضعف قد وضع كلّا من الوالدين في كنف الابن وتحت رعايته بعد أن كان الابن هو الضعيف الذي يعيش في كنفهما وتحت رعايتهما.

والقصد إلى تصوير هذا المعنى هو الذي اقتضى تقديم لفظ «الكبر»، وهو مفعول، على لفظ: أحدهما وهو فاعل، ولو اختلف نسق هذه الألفاظ وترتيبها اختلافا ما، لاختفت الصورة وبطل أن يكون في الآية شيء من هذا الإيحاء.

ثم انظر كيف نهتك الآية عن أن تضيق ذرعا بهما في شعورك ونفسك كما نهتك عن إيذائهما في شيء من عملك ومعاملتك، ثم كنّت عن الأول بأقل مظهر له وهو التأفف، وكنّت عن الثاني بأدنى مظهر من مظاهره وهو القسوة أو الانتهار في القول، فنهت عن ذلك بدلالة النص، إذ النهي عن أدنى إفراد الشيء أبلغ نصّ في الدلالة على عموم النهي عن الجنس كله.

* ثم زاد الأمر بالإحسان إلى الوالدين تأكيدا، فصوّر لك ما ينبغي أن تكون عليه حال الولد من والديه دائما، وأخرج معنى الرحمة بهما والإحسان إليهما والتواضع لهما في مظهر شيء متخيل محسوس مبالغة في الإلزام به والدعوة إليه، فقال: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. فقد صوّر الذلّ المأمور به بطائر خرّ هاويا إلى الأرض ثم صوّر مبالغة وضوح الذلّ والتواضع بنشر هذا الطائر مع ذلك جناحيه يخفضهما نحو الأرض.

<<  <   >  >>