للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

* وتأتي الآية التي بعدها، واقعة موقع التعليل مما قبلها وهي: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. أي فإذا كان مصدر رزقك هو الله عزّ وجلّ يبسطه إذا شاء ويضيقه عند ما يريد، فالتزم وصيته في آداب الإنفاق وكيفيته، إذ لا البخل هو الذي يحفظ مالك ويربّيه ولا التبذير والإسراف يمنعانك من أن يعاقبك الله بذلك فيقدر عليك رزقك الذي تتقلب وتمرح فيه. ثم يقول: إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، إشعارا بأنه يراقبهم بصدد ما يأمرهم به من هذه المبادئ، هل ينفذونها أم يعرضون عنها؟.

* وتتهيأ المناسبة- مع الحديث عن آداب الإنفاق وتقرير أن الرزاق للعباد هو الله وحده- لعرض مبدأ خامس، وثيق الصلة بكل ما قد مرّ. فيقول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي لا تقتلوهم مخافة فقر تتوهمونه، وأصل أملق بمعنى التصق بالملقات، وهي حجارة رقاق ملساء فكنّي به بعد ذلك عن الفقر والحاجة. ثم علّل النهي بتأكيد ما قد ذكره في الآية السابقة فقال: نحن نرزقهم وإياكم، أي لستم أنتم الذين ترزقون أولادكم حتى تحاروا في أمرهم فتندفعوا بذلك إلى قتلهم؛ بل نحن الذين نرزقهم وإيّاكم جميعا، وبالغ في إظهار هذا المعنى مع شيء من التأديب حينما قدّم ضمير الأطفال في الرزق على الآباء، إذ أشعرهم بذلك بأن رزق أطفالهم مقدّر مهيّأ لهم من قبل رزقهم هم، فلا يتوهموا أن لهم أيّ تأثير في رزقهم حتى ولا التأثير الشكلي الذي يتجلّى في مظهر كونهم وسطاء لهم في الرزق والرعاية.

وحينما نهى الله في سورة الأنعام عن قتلهم أولادهم من أجل وقوع الفقر بهم فعلا قائلا: لا تقتلوا أولادكم من إملاق- لم يقدّم ضمير الأطفال كما فعل هنا، ذلك لأن خوف الآباء هناك إنما هو على أنفسهم وأولادهم معا، أو هو على أنفسهم قبل أولادهم فلا داعي إلى إشعارهم بهذا المعنى على ذلك التقدير.

ومن أجل وضوح كل ذلك، فقد كان قتلهم خطئا كبيرا. وخطء بكسر الخاء مصدر خطئ يخطأ كأثم يأثم وزنا ومعنى، فهو أبلغ وأشد من الخطأ بفتح الخاء والطاء، إذ هو الإتيان بما لا ينبغي من غير قصد.

<<  <   >  >>