للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على الأرض وبيان لمدى تغلّب السفينة بحفظ الله من ذلك الطغيان الهائل!.

ولنتأمل الآن في هذا المشهد المؤثر: نوح على ظهر السفينة، وابنه في خارجها بعيدا عنه، وقد اعتلجت رحمة الأبوّة في قلب الوالد الذي يريد لابنه الخير والنجاة، فناداه من بعيد: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.

ويجيبه الابن من معزله البعيد غير مبال بتأثر الوالد وشفقته: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي سأعتصم من الطبيعة بالطبيعة، ومهما كان من طغيان الماء فإن في طبيعة الجبال أعظم معتصم منها! ... وذلك هو منطق الإلحاد، لا يبصّر صاحبه مما هو أمامه إلا وراء أرنبة أنفه.

ويصور القرآن ردّ الوالد عليه في جملة فيها الأسى والحزن، وفيها منطق الإيمان يردّ على غرور الجحود والإلحاد: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. لم يقل لا عاصم اليوم من الماء؛ على نحو ما قاله ابنه، إشعارا بأن المشكلة ليست مشكلة ماء. إنها مشكلة أمر الله عزّ وجلّ خالق كل شيء والمسيّر لكل شيء، فهيهات أن تجد معتصما من أمر الله في جبل أو أرض أو سماء، اللهمّ إلا من رحمه الله بهدايته، فمعتصمه هو رحمة الله فقط، فإلّا في قوله:

إِلَّا مَنْ رَحِمَ بمعنى لكن، أي لكن من رحمه الله فهو معصوم برحمته.

ويسدل البيان الإلهي ستارا على هذا الحوار بين منطق الإيمان وغرور الإلحاد، إذ يقول بعد ذلك: وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

ولكأني أرى في هذه الجملة الرهيبة صواعق من مظهر الغضب الإلهي وهي تنقض على الجهل المتعالم والغرور المتطاول تسحقه فإذا هو أثر بعد عين.

إن الجملة لتقول بأبين دلالة: ما كاد هذا المسكين يتم النطق بكلامه المغرور وما كاد يطرف ببصره بحثا عن الجبل الذي سيعتصم فيه، حتى أسرعت إليه موجة فالتقمته، وكأن لم يكن!.

* وفي غمرة هذه الأحداث التي تصورها الآيات، وبين صخب الأمواج التي تنحسر وتمتد في بحر هي الأرض كلها- ينطوي هذا المشهد فجأة، لترى من ورائه مباشرة عودة الهدوء إلى الدنيا ورجوع كل شيء إلى نظامه السابق؛

<<  <   >  >>