للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جامدان، ليصور لك سرعة استجابتهما لأمر الله عزّ وجلّ حتى كأنهما منقادتان بسماع الأمر وفهم الخطاب.

وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ. ثلاث جمل فيها مظهر الاستجابة السريعة لأمر الله، فقد غيض الماض أي فلم يبق إلا ما كان على وجهه من قبل. وقضي الأمر فهلك أولئك الكافرون والجاحدون ونفذ فيهم حكم الله عزّ وجلّ، وها هي السفينة قد رست على جبل الجودي (١).

وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وهو قيل ينطق به حال الكون كله بعد انقشاع الغمّة وزوال المصيبة، فقد فتح الكون عينه ليرى كيف ذهب أولئك الظالمون في تلافيفها ومضوا مع مضيّها، فقال بلسان الحال: بعدا لقوم الظالمين، أي ليزدادوا ابتعادا وهلاكا، وما ظلمهم أحد ولكنهم كانوا هم الظالمين.

* والتقط المؤمنون أنفاسهم بعد انقشاع البلاء، وأخذوا- وقد استقرت السفينة بهم هادئة فوق الجودي- يتأملون معتبرين، وتذكّر نوح ابنه، وتمنى لو كان فيمن سلمهم الله من هذه الطامّة، وتذكّر وعد الله إيّاه بإنجاء أهله فرفع رأسه يقول في ضراعة وأدب:

رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.

أسلوب في غاية الأدب، إنه يسأل ولكن سؤالا مطويا ضمن ما يقرره من وصف العدالة والحكمة الباهرة لله جلّ جلاله، أي فلماذا لم يكن من الناجين وقد وعدتني- ووعدك الحق- بأن يكون أهلي في المرحومين من ذلك البلاء؟

وجاءه الجواب وحيا من الله عزّ وجلّ: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح.

أي إنه ليس داخلا في أهلك أصلا، لأن مدار إكرام قرابتك إنما هو على الإيمان الذي هو الأصل والسبب في إكرامهم، فإذا انتفى الإيمان الذي هو


(١) هو جبل في شمالي العراق داخل في الحدود التركية.

<<  <   >  >>