ثم يأمره بعد هذا أن يتوجه إلى المشركين الذين من حوله سائلا: هل الإيمان بالإله الحقّ الذي فعل كل ما قد ذكر بالأمم السابقة أفضل أم الإيمان بما تؤلهونه من المخلوقات أيّا كانت؟ وهذا الاستفهام جار على قصد التقريع للمشركين وتسفيه آرائهم السقيمة، وإلا فمن الواضح أنه لا يوجد أيّ تلاق في جنس الخيرية بين الأوثان التي يؤمنون بها والإله الواحد جلّ جلاله، حتى يتصور معنى التفاضل والسؤال عن الأفضل منهما، فهو كما تقول لمن سلك مسالك الغواية والشقاء: ويحك هل الشقاء خير أم السعادة؟! ولما كانت هذه الخيرية، رغم وضوحها، خفية عن أذهان الكافرين، أو كالخفية بسبب تكبرهم وعنادهم في الباطل الذي لا يريدون التحوّل عنه، عقّب الله هذا الاستفهام بآيات تكشف عن مظاهر ألوهية الله عزّ وجلّ وتفرّده في الخلق والإبداع والتحكّم في مقاليد الكون، ليتّضح للمشركين أيّهما خير: الله عزّ وجلّ أم ما يؤلهونه من المخلوقات أيّا كانت؛- أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها، أإله مع الله، بل هم قوم يعدلون.
هذه أول آية من هذه الآيات التي سيقت مساق الكشف عن بعض مظاهر ألوهية الله جلّ جلاله، تأتي بأسلوب الاستفهام ليكون فيها معنى الاحتجاج والمناقشة والدفع إلى التأمل وإعمال الفكر.
وأم التي في أولها، أم المنقطعة، بمعنى بل، وهي للإضراب الانتقالي عن الكلام السابق إلى سؤال آخر: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ ... الآية.
والسماوات هنا كل هذه الأجرام العلوية بما فيها من كواكب وغيرها، والسماء في قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً هو جهة العلو، إذ كل ما علاك فأظلّك فهو في اللغة سماء.
وكان من مقتضى نسق الآية أن يقول: فأنبت به حدائق، فلماذا وقع الالتفات عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؟