إن الذي اقتضى ذلك هو أن أحدا لا ينسب إلى نفسه خلق السماوات وإنزال الأمطار، فحسب السؤال عن خالقها ومنزّلها، بهذا الأسلوب، منبها إليه جلّ جلاله. أما إنبات
الزرع والأشجار فكثيرا ما ينسبه صاحب البذر والسقي إلى نفسه فيقول: أنبت الزرع والبستان، فناسب الالتفات به إلى ضمير المتكلم تأكيدا لاختصاص الإنبات بذاته تعالى وإشعارا بأن ظهور النبات يشق باطن الأرض بألوانه الزاهية وطعومه المختلفة وخصائصه المتنوعة إنما هو من فعل الخالق جلّ جلاله، ومن أجل المزيد من تقرير هذه الحقيقة قال بعد ذلك:
ما كان لكم أن تنبتوا شجرها.
وجواب الاستفهام محذوف، دلّ عليه حكم العقل والكون، على أن الذين ينتظر منه الجواب هم المخاطبون. ولقد رتّب الله على هذا الجواب المعلوم استفهاما آخر متفرعا عنه ومرتبطا به: أءله مع الله، أي أءله آخر مع الله جلّ جلاله.
ويتلفت الخطاب عنهم بعد ذلك، مضربا عن حديثه معهم وسؤاله إيّاهم، ليحكي صفتهم وحالهم العجيبة للآخرين قائلا: بل هم قوم يعدلون أي كأنه يقول ملتفتا: ولكن ما الجدوى من نقاشهم والبحث معهم؟ إنهم قوم يعدلون عن الحقّ، أو هم يعدلون بالله غيره من الأوثان والمخلوقات!.
* أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا، أإله مع الله، بل أكثرهم لا يعلمون.
إضراب آخر، أريد به الانتقال إلى دليل كوني آخر متعلق بكثير من خصائص الأرض وسماتها الواضحة من حولهم وأمام أعينهم. أي لنترك أمر السماوات وحديث المطر والإنبات إلى حقيقة أخرى. من هذا الذي جعل لكم الأرض قرارا؟ وكلمة «قرارا» هذه تعني كل ما قد أودع الله الأرض من الخصائص التي تجعلها قارّة بنفسها وتجعل الناس متمكنين من القرار عليها، سواء فيما يتعلق بلينها وصلابتها وطبيعة الإنبات المودعة فيها وضبط ثقلها وخفّتها ومدى بعد الشمس عنها، ونظام الجاذبية التي فيها، وغير ذلك مما