وينتقل الحديث بإضراب ثالث إلى أدلة من نوع آخر، قائمة في كيانهم ومستقرة في نفوسهم.
إنّ من خصائص الإنسان أنه إذا نزلت به شدة من الشدائد وحز به أمر من بلاء أو مصيبة، والتفت من حوله فافتقد الوسيلة المنقذة والصديق المساعد وضاق عليه الخناق، أخذ يرمق السماء بطرفه يسأل الله عزّ وجلّ في ضراعة وذل، ولعلّه كان لا يعرف الله في أوقات الصفو والرخاء.
وهذه الطبيعة الكامنة في الإنسان من أعظم الأدلة على أنه مفطور في حقيقته على العبودية لله عزّ وجلّ والإيمان به، وأن كل انحرافاته التي تبعده عن هذه الفطرة إنما تأتي بسبب غاشية من الغفلة أو سكرة من الكبرياء الكاذب أو الشهوات المتأججة، وسرعان ما يرتدّ إلى فطرته الأصيلة إذ يهتز كيانه بسبب بلاء خانق أو كرب مطبق فيتساقط عنه كل ما قد تعلق به من غواشي الغفلة ومسكرات الشهوات والأهواء.
فمن الذي يستجيب لهذا المضطر إذا دعاه متضرعا له آئبا إليه؟
والسؤال، فيه تذكير كما ترى بهذه الفطرة الإنسانية، وفيه بيان أن الإنسان إذا أصابه ضرّ شديد ضلّ عنه كل من يدعوه ويعتمد عليه إلا الله جلّ جلاله، و «أل» في المضطر للجنس لا للاستغراق، فلا يلزم أن تكون الاستجابة من الله عامّة لكل الداعين من المضطرين.
ومن الذي يكشف السوء عنكم بكل أصنافه ومظاهره؟
ومن الذي يجعلكم خلفاء الأرض؟ أي تتوارثون سكناها والتصرّف فيها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن؛ وكم في هذه المظاهر من دلائل العظمة الإلهية في تنظيم حياة هذه
الخليقة على وجه الأرض!. دفعة من بني الإنسان تأتي إثر أخرى، هذه تأتي من باب الولادة، وتمضي الأخرى من باب الموت. ولو