وأما الخلف منهم، وهم الذين جاءوا في عصر ازدهار التدوين والعلوم، واتساع حلقات البحث والمناقشات العلمية، فقد آثروا أن يحملوا ألفاظ هذه الآيات على محمل يليق بذات الله تعالى مع التزام الدلالة اللغوية والخضوع لقواعد الأخذ بالحقيقة والمجاز وعدم الخروج عليها أو التكلّف في معالجتها؛ ففسروا الاستواء بتسلط القوة والسلطان، وفسروا اليد بالقدرة، والعين بالعناية والرعاية. وهو تفسير تدل عليه طبيعة الاستعمال اللغوي وجملة الأسلوب القرآني.
وإنما قلنا إن الخلاف في الأمر الثاني خلاف في الظاهر فقط، لأن المآل فيما ذهب إليه كلّ من السلف والخلف واحد، ما دام الجزء الأول من التفسير محل اتفاق وهو أنه عزّ وجلّ لا يشبهه شيء من مخلوقاته وأنه منزّه عن جميع صفات النقص. والخلاف شكلي، ينحصر في طريقة تفسير هذه الألفاظ التي تدور بين تركها على حقيقتها مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص، وتأويلها على المجاز لتتفق لغويا مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص.
ولقد شنّع ابن تيمية رحمه الله كثيرا على طريقة الخلف هذه، وعدّها جانحة جنوحا حقيقيا عن مذهب السلف. وأنكر على سائر علماء الخلف (وهم الذين جاءوا بعد القرن الثالث) استعمال هذه الألفاظ القرآنية في غير حقيقتها، لا سيما المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته.
ولكنّا نجزم بأن الخطب في ذلك يسير، والخلاف أهون من أن يكون جنوحا لهؤلاء الأعلام، عن مبادئ العقيدة الإسلامية وأصول التفسير.
والعجيب أن ابن تيمية بعد كل هذا التشنيع يتأول (الوجه) في قوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ بالجهة، ويقول: إن معنى الآية كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله تعالى! ... (١) فلماذا أخرج الكلمة من حقيقتها إلى المجاز؟ ولماذا يحرّم على علماء الخلف ما يراه مباحا له؟ وليته إذ تأول على خلاف مبدئه ومذهبه، فسّرها بالذات كما فعل جمهور المفسرين بل أصرّ على أن يتأولها بالجهة والمكان!! ...