للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي، إذَا كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك، وَإِنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لَك، كَمَا قَالَ: إنْ سَافَرْت فَفَرْضُك رَكْعَتَانِ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ لَك فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ أَقَمْت فَفَرْضُك أَرْبَعٌ، وَمَحْظُورٌ عَلَيْك الْإِفْطَارُ، وَكَمَا يَقُولُ لِلْمُكَفِّرِ عَنْ يَمِينِهِ: إنْ كَفَّرْت بِالطَّعَامِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَفَّرْت بِالْعِتْقِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ، وَالْكِسْوَةِ.

فَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِيمَا بَيَّنَّا: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَعْتِقْ عَبْدِي فُلَانًا؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِلْمَأْمُورِ عِتْقُ سَائِرِ عَبِيدِهِ السُّودِ، لِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِلَالِ، وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِنَا فِي تَعَارُفِنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٤] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، لَوْ نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ، بِأَنْ يَقُولَ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ التَّفَاضُلَ فِي الْبُرِّ،؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ، أَنْ لَا يَجُوزَ لَنَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ، لِأَجْلِ وُجُودِ الْكَيْلِ فِيهِ. الْجَوَابُ: إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِاعْتِبَارِ أَوَامِرِهِ وَرَدِّ مَا لَمْ يَنُصَّ (لَنَا) عَلَيْهِ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى فِي أَمْرِهِ مَوْضِعَ النَّصِّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ، وَوَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدِي (فُلَانًا) ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّةُ اعْتِلَالِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ. فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهُ،؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي يُقَاسَ بِهَا سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً صَحِيحَةً، تَكُونُ عَلَمًا لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِلَلِ، أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، فَإِنَّهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَمَرَنَا مَعَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِهَا، وَرَدِّ النَّظَائِرِ إلَيْهَا، بِمَا أَقَمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، فَلَزِمَ إجْرَاءُ اعْتِلَالِهِ فِي مَعْلُولَاتِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْعَبَثِ، وَلَا وَضْعُ الْكَلَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>