للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْت أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمٍ بِعَيْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ مُتَظَنِّنًا غَيْرَ عَالِمٍ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ شَبَهِهَا بِالْأُصُولِ، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ لِإِصَابَتِهِ لَمَا أَخْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دَلَالَةٍ لَهُ يَنْصِبُهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا لَأَفْضَى بِالنَّاظِرِ إلَى الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ، وَلَكَانَ يَكُونُ مُخْطِئُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْطِئِ لِسَائِرِ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إصَابَتَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا، لَمَا خَلَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ الْجَمَاعَةُ أَصَابَهُ الْبَعْضُ مِنْهَا وَدَعَا الْبَاقِينَ إلَيْهِ، فَيَتَوَافَوْنَ عَلَى الْقَوْلِ (بِهِ) لِوُقُوعِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِمَدْلُولِهِ.

فَلَمَّا وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ ثَابِتِينَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ فِي خِطَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا لِغُمُوضِ دَلَالَةِ الْحُكْمِ وَخَفْيِ نَقْلِهَا، وَلَمْ يُعْذَرْ فِي الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذُكِرَتْ، لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا وَوُضُوحِهَا. قِيلَ لَهُ: فَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى إصَابَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَالْحُكْمِ بِمَدْلُولِهَا؟ وَهَلْ كَلَّفَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا بِعَيْنِهَا، وَنَهَاهُ عَنْ الْعُدُولِ عَنْهَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْذُورًا مَنْ كُلِّفَ إصَابَةَ الْحُكْمِ وَجُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَيْهِ، فَعَدَلَ عَنْهُ بِتَقْصِيرِهِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>