للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَيْضًا: فَلَا يَخْلُو الْقَائِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُجَوِّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ مُكَلِّفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِحَّةَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَنَظَرُهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ، وَتَضَادِّ الْمَذْهَبَيْنِ، أَوْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّنَّ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ.

فَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُمَا مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَاحِدَةٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ، فَتَكُونُ مَعْلُومَةً مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْعِلْمَيْنِ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ.

فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ تَكْلِيفِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، (وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كَلَّفَهُمَا الظَّنَّ فَحَسْبُ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ) .

وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ وَاحِدَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكَانَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النَّظَرِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَى مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ.

فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ وَطَلَبِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الظَّنُّ مُبَاحًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسَبَبِ مَا يَسْتَفْرِغُ مُدَّةَ النَّظَرِ، فَيُؤَدِّيه إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ.

وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا: تَكْلِيفُ الظَّنِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مِنْ جِهَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِمِثْلِهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ ظُهُورِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ مِنْهَا، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى تَأْثِيمِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَهُوَ مُتَفَارِقٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ مِمَّا طَرِيقُهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَسَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ قَدْ حَصَلَتْ عَلَى حَقِيقَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>