بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، وَنَحْوِهَا، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاعْتِقَادِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَةِ الْمَظْنُونِ، إذْ لَمْ يُكَلَّفُوا الْمَغِيبَ.
وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ إذَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ الشَّيْءَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ كَذَا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدِي، وَفِي ظَنِّي، فَيَكُونُ صَادِقًا.
أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَجُوزُ إنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ آخَرُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ جِهَةٌ أُخْرَى: إنَّ هَذِهِ جِهَتُهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا عِنْدَهُ لَا إلَى الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهَا.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: أَنَّهُ أَمَاتَهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ {قَالَ كَمْ لَبِثْت قَالَ لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: ٢٥٩] وَكَانَ صَادِقًا، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا كَانَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ.
وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: ١٩] وَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ، إذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ ظُنُونِهِمْ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ، «وَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» وَمَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي، فَإِذًا قَدْ جَازَ إطْلَاقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ الْمَمْدُوحِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُتَعَلِّقًا بِغَالِبِ ظُنُونِهِمْ، دُونَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، وَدُونَ حَقِيقَةِ مَظْنُونِهِمْ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ غَلَبَةُ رَأْيِهِ مُتَعَبِّدٌ بِاعْتِقَادِ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَنَّهُ كَذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ، وَكَانَ إطْلَاقُهُ (سَائِغًا حَائِزًا) بِمَا عِنْدَهُ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ مَا قَدَّمْنَا كَافٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ فِي إسْقَاطِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَفِي إجَازَةِ مَا شَاءَ مِنْهُ هَذَا السَّائِلُ إجَازَةُ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute