للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ. وَكَانَتْ سَائِرُ النَّاسِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ أَخْبَارَ زَرَادُشْتَ وَأَمْرَ الدِّينِ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَخْبَارِهِمْ صِحَّةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ مِمَّا ادَّعَوْهُ.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ زَرَادُشْتَ: إنَّ لِلَّهِ ضِدًّا مُغَالِبًا فِي مُلْكِهِ، مَعَ مَا يُضِيفُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَامَتْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ: إنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَقِدُونَهَا. عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُخَرِّفًا، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُظْهِرَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ حُجَّةً وَالْمُخْبِرُونَ بِهَا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْهَا، وَمَتَى شَاءُوا اخْتَرَعُوهَا، وَأَخْبَرُوا بِهَا، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ وَيُمْكِنُهُمْ اخْتِرَاعُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ كَيْفَ شَاءُوا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ: إنَّ الْأَخْبَارَ فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَخْبَارًا، حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهَا مَتَى قَارَنَهَا أَحْوَالٌ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ اللَّهُ الْمُتَوَلِّي لَهَا وَوَاضِعُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى خَالَفَ بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُخْبِرِينَ وَعِلَلِهِمْ، وَأَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ ذَكَرُوا: أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ اضْطِرَارًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَالْحُجَّةُ إنَّمَا لَزِمَتْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّ افْتِعَالَ الْكَذِبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِرِينَ، لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا يُؤْمِنُنَا كَذِبُهُمْ فِيهِ.

قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ حُكْمَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الشَّاهِدِ وَمَا يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا امْتَحَنَّا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَوَجَدْنَا الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا شَأْنَهَا، يَمْتَنِعُ جَوَازُ اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ مَشَاهِدِهِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا صِدْقًا، وَأَنَّ مُخْبَرَهُ وَاقِعٌ عَلَى مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا جَوَّزْنَا الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرٍ، وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ، فَرَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى مَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالُ الشَّاهِدِ، وَخَبَرُ إنَّ الْعَادَةُ، فَجَوَّزْنَا مِنْهُ مَا أَجَازَتْهُ، وَمَنَعْنَا مِنْهُ مَا مَنَعَتْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>