للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَارَضَ حَدِيثَ الصَّرْفِ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» وَالْخَوَارِجُ خَالَفَتْ الْإِجْمَاعَ، وَخَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالُوا: إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَأَخْطَئُوا، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يُدْرَى هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، أَمْ لَا، وَيُرَدُّ قَضَاءُ مَنْ قَضَى بِهِ (لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَرُدُّهُ) .

قَالَ: وَمِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، مَنْ اسْتَحَقَّ دَمًا بِالْقَسَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ كَاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمْ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: ٨٦] . وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ.

قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا نَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا، مَعَ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهَا، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} [النساء: ١١] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَكُونُ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: اثْنَانِ. وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ السَّفَرِ فِيهِ، وَمَا أَشْبَهَهُ طَرِيقُهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ، وَلَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ، فِيهِ وَلَا يَضِلُّ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَقْسِيمِ مَنَازِلِ مُوجِبِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ، أَنَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ، لِأَنَّ خَبَرَ الرَّجْمِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، لَكِنْ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ بِهِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا، وَلَا يُعَدُّ الْخَوَارِجُ خِلَافًا، فَإِنَّمَا يُوجَبُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لِمُسَاعَدَةِ إجْمَاعِ السَّلَفِ إيَّاهُ، وَجَعْلُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَخَبَرِ الصَّرْفِ دُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى السَّلَفِ قَدْ ذَهَبُوا إلَيْهِمَا، إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ، وَأَخْطَئُوا بِتَرْكِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الضَّلَالِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>