لِصِدْقِهِ، فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ، لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ، إذْ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ، وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ.
وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ، وَالْحُكْمَ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ قَبُولِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ: إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا، كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ، وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَالْآخَرُ: حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: ١٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {إنَّ ابْنَك سَرَقَ، وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: ٨١] فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ، يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ إعْلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ.
وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ، حَكَمْنَا بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِلْمِ، حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ صِدْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَكَانَ خَبَرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute