وَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى: يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ.
وَإِنْ وَرَدَ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يَنْهَى عَنْهُ، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ الْإِبَاحَةَ، فَإِنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِبَاحَةِ: إمَّا إلَى إيجَابٍ، أَوْ إلَى حَظْرٍ.
فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ: إنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ زَالَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَظْرٌ، وَلَا إيجَابٌ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَوْقُوفًا، لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يُطْرَحُ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ. وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ: فِي أَحَدِهِمَا فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشَيْءٍ، وَفِي الْآخَرِ النَّهْيُ عَنْهُ وَتَسَاوَيَا، فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ أَوْلَى، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ» ، فَهَذَا فِعْلٌ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَأَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَالَ الرُّكُوعِ، فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ.
وَتَرْكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ، بِظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ أَفْعَالًا لِنَفْسِهِ لَا يُرِيدُهَا مِنَّا، وَلَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ، أَوْ يَنْهَى عَنْهُ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْأَصْلِيِّ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَلَا يُعَارِضُ، الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ قَدْ «أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ: أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَعَارَضَتْ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ وَجَعَلَتْ الْفِعْلَ أَوْلَى مِنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute