أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا» فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: وَاَللَّهِ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا، وَنَحْنُ عَلَى الشِّرْكِ، إلَّا قِرًى أَوْ شِرًى، فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ الْآنَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا بِالسَّيْفِ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَهِدُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُهُمْ فِي أُمُورٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيٌ. ثُمَّ يَجْتَهِدُ مَعَهُمْ، فَيَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ صَوَابًا. لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالُوا لَهُ: أَرَأْيٌ هُوَ أَمْ وَحْيٌ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَلْ هُوَ رَأْيٌ) وَيُبَيِّنُ وَجْهَ اجْتِهَادِهِ وَغَالِبَ ظَنِّهِ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ «عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك تُوَجِّهُنِي فِي الْأَمْرِ فَأَكُونَ فِيهِ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ. أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟ فَقَالَ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ الْغَائِبُ» فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ الشَّاهِدِ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَاهِدًا فِي كُلِّ حَالٍ، عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ كَانَ يَكِلُهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَرَأْيِهِ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: ٣] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِمَا يُؤْثِرُهُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَوْقَاتِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] وَالِابْتِلَاءُ وَإِينَاسُ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالِاجْتِهَادِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَزْمِ الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ لِأَمْوَالِهِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: ١٦] وَكَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute