للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أي بواحد، لخروج الكلام من أن يكون واقعاً في مقابلة كلام الكفار ومعارضاً، وإذا امتنع الوجهان فيه، فعلى ماذا يُحمل؟ والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى الكفار يوازنونه إذا دعاهم إلى الله عز وجل، وإلى الإيمان به، أو استنصر الله تعالى عليهم، واستنجز كريم وعده فيه بذكر هُبَل، ويدَّعون في مباراته ومحاكاته أن لهم إلهاً يرجعون في المسألة إليه، ويعتمدون في الإجابة عليه، وأنهم يرجون عُلوَّهُ وقهره وإظهاره، حتَّى قالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، ثم نتعاقب على ذلك، فأنزل الله جل جلاله:) قلْ يا أيُّها الكافرون لا أعبدُ ما تعبدون (السورة، ووجد أبا سفيان وصحبه ركبوا في مقابلته ومحاذاة أفعاله ذلك اليوم تلك الطريقة، قال على طريقة التنزيه والتعظيم والتبرئة والتفخيم: الله أعلى وأجل، أي: تعالى عن أن يذكر معه شيء، وجل عن أن يغالبه مذكور. وهذا كما يقال: فلان أوثق من أن يواقف، وأعدل من أن يحاكم، وإذا كان كذلك سقط مشاركة هبل له في المدح، وفي هذه الطريقة قول الله عز وجل:) لا يُسئلُ عمّا يفعل وهم يُسألون (، أي أفعاله في الإتقان والإصابة والجري في سبيل الحكمة بحيث لا تتعقب بالسؤال عنها، والبحث عن مواقعها، وهم يسألون لجواز السهو عليهم، وتخلل الاختلال لأفعالهم، وهذا ظاهر، ويغلب في نفسي أن الفرزدق أراد بقوله:

بيتٌ دعائمُه أعزُّ وأطولُ

هذا المعنى، أي أعز من أن يغالب، وأطول من أن يفاضل، وأنه لم يقصد: أعز من غيره، لما في الأول من التَّعلي والفخامة، فاعلمه إن شاء الله تعالى.

[مسألة]

سأل بعضهم عن قول القائل: احمل المال أولَ أولَ. وإعرابه ومعناه.

والجواب: اعلم أن للعرب في تكرير مثل هذا مذهبين، منهم من يبنيهما معاً فيجريهما مجرى خمسة عشر، كما فعل ذلك بقولهم: هو جاري بيْتَ بيتَ، ولقيته كفَّةً كفَّةً، وصباحَ مساءَ، ويوم يوم، فيقول على ذلك: احمل المالَ أولَ أولَ، والمراد في الكل نية حرف الجر، وتضمين الاسمين معناه، وكان الأصل: هو جاري بيتٌ لبيتٍ، أو بيتٌ إلى بيتٍ، ولقيته كفَّةً لكفَّةٍ، وصباحاً لمساء، ويوماً ليوم، فلما حذف حرف الجر وتضمن الاسمان معناه، وجب البناء، كما أن خمسة عشرَ لما كان أصله خمسة وعشرة، ثم حذف حرف العطف وضمن معناه الاسمين وجعلا كالاسم الواحد، وجب بناؤه، وكذلك قولك: احمل المال أولَ أولَ، أي أولاً لأول، أو أولاً مضافاً إلى أول، كأنه لا ينتظر بكل أول أن يكون له ثان، بل يحمله معجَّلاً، حتَّى يصير كل محمول أولاً لأول، أو أولاً مضاف إلى أول، وعلى هذا: ألقى متاعه أخوَلَ أخْوَلَ، قال الشاعر:

يُساقطُ عنه روْقهُ ضارياتها ... سِقاطَ حديدِ القينِ أخوَلَ أخولا

وقال امرؤ القيس:

ورِثنا الغِنى والمجدَ أكْبرَ أكبرا

أي: أكبرٌ عن أكبرٍ، وأخول عن أخول، ومنهم من لا ينوي حرف الجر، ولا يجعل الاسمين اسماً واحداً، فيقول: صُمْتُ رمضان يوماً يوماً، وقبضت المال درهماً درهماً، وأحمل المال أولاً أولاً، والمعنى: أحمله شيئاً شيئاً، وجملة جملة، أي متتابعاً، وإن أدخلت الفاء حسن وجاد الكلام وصار جائياً على أصله، تقول: احمل المال أولاً فأولاً.

وزعم سيبويه أن الغالب على هذا الكتاب كله أن يكون انتصابه من إحدى الجهتين: الحال أو الظرف، فإن أدخلت الألف واللام فقلت: أدخلوا الأول فالأول، فيجب أن لا تعتدَّ بهما، ويكون انتصابه على الحال أيضاً، والتقدير: ادخلوا واحداً واحداً، وشبهها سيبويه بقولهم: جاءوا الجمَّاءَ الغفير، وجاءوا قضّعم بقضيضهم: في أنه معرفة، وقد وقع موقع ما يكون نكرة، وهو الحال.

[بيت معنى]

أقولُ لعمرٍو والظّباءُ سوانحٌ ... وهنَّ لنا الأكتابُ والصَّيدُ مُخلقُ

ألا إنما التَّمرُ الذي أنتَ آكلٌ ... هو الإسبُ والمُسترخصُ المُمزَّقُ

فعنهنَّ أو فاسببْ فتلك رمايةٌ ... بها عندَ دبَّاغي تِهامةَ تنفقُ

<<  <   >  >>