للكميت بن زيد:
خرجتُ خروجَ القِدحِ قدحِ ابنِ مقبلٍ ... على الرَّغمِ من تلكَ النَّوابحِ والمُشلي
عليَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتَها ... صريمةُ أمرٍ أشبهتْ سلَّة النَّصلِ
كان خالد القسري سجن الكميت فحضرت امرأته السجن، فلبس ثيابها وخرج متشبهاً بها ومتنكراً، فسلِم وتخلَّص.
وقدح ابن مقبل يضرب به المثل في الفوز، وضربه الكميت مثلاً لنفسه حين خرج من السجن، وكان قدح ابن مقبل فوَّازاً معروفاً بذلك، قد أجاد نعته في شعره وكرر ذكره، وكانت العرب تستأجره وتستعيره وتتيمن به، وكتب الحجاج إلى زيد بن الحصين وكان على أصبهان: مثلي ومثلك قدح ابن مقبل. فلم يدر زيد ما أراد، حتَّى لقي رجلاً شامياً فسأله عنه فقال: يخبرك أني سأظفر بك، وكان الكميت لما هرب من السجن لحق بمسلمة، فقال:
يا مسلمَ بنَ أبي الوليدِ ... لميَّتٍ إن شئتَ ناشِرْ
قطعَ التنائفَ عابراً ... بك في وديقةِ باجِرْ
[مسألة إعراب]
قولهم: خلق الله الزَّرافة يديها أطول من رجليها، يديها بدل من الزرافة وأطول: انتصب على الحال، وإنما جاز كونه حالاً لما كان ينتقل في الطول فيتطاول شيئاً بعد شيء، كما قال الشاعر:
ومالٍ بقنوانٍ من البسرِ أحمرا
فنصب أحمر على الحال، لما كان القنوان ينتقل في الحمرة، لولا ذلك لما جاز؟ وأما قوله تعالى:) ويومَ القيامةِ ترى الذين كذَبوا على اللهِ وجوههُم مسودَّةٌ (، وجوههم يرتفع بالابتداء، ومسودة: خبره، وهو بمنزلة قولك: رأيت زيداً أبوه أفضل منه، وإنما جاز فيهما لكون الضمير راجعاً إلى الأول من سببه، ويجوز أن تنصب وجوههم على أن تجعله بدلاً من الذين، ويكون مثل قول القائل: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، ولا مانع يمنع من جوازه، إلاّ أن القرّاء أجمعوا على نزول القراءة به من دون علة.
[مسألة من التنزيل]
قوله تعالى:) وكلُّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرهُ في عنقهِ ونخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً اقرأ كتابكَ كفى بنفسكَ اليومَ عليكَ حسيباً (، قوله: طائره يعني عمله من الخير والشر، وإنما صح تسمية العمل طائراً لأنه يسبق عامله فكأنه يطير منه فلا يملك فيه لحوقاً وإدراكاً، ويقال على هذا: فجرٌ مستطيرٌ، وغبار مستطار، قال الخليل: هكذا كلام العرب.
وقال البعيث:
فطوتْ بهِ شجْعاء قراء جُرشعاً ... إذا عدَّ مجدُ العيشِ قدَّمَ بينَها
يريد فثُّ بها، وسبقت بها. ويشبه هذا قولهم: الفرُط: وهو ما سبق من عمل أو ولد يكون لك أجره. ويقال: فرط له ولد، أي يسبق إلى الجنة، وفي الدعاء: اللهم اجعله لنا فرُطا، أي أجراً متقدماً، وأصله: الفارط الذي يسبق القوم إلى الماء، قال لبيد:
فوردْنا قبلَ فُرَّاطِ القطا ... إنَّ منْ وِرديَ تغليسُ النَّهلْ
ومعنى:) ألزمناهُ طائرهُ في عنقهِ (، ألزمناه جزاء عمله الذي قدمه، فهو سابقه إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، متقلداً به وملازماً له، فموضع قوله: في عنقه نصب على الحال، وهم يولعون بذكر العنق والرقبة ويكنون بها عن جملة الإنسان، هذا قولهم: أعتق فلان رقبة، في المملوك، وهذه الأمانة في عنقه، ويقولون: قلده السلطان كذا في الولاية، ورهن مقلده بكذا، كما قالوا: شغل ذمته بكذا، وقال بشر يصف غدرة حاذر:
وقُلِّدها طوقَ الحمامةِ جعفرُ
وأنشد الأصمعي قول ابن أبي ربيعة وقد كنى عن العنق:
إنَّ لي حاجةً إليكِ فقالتْ ... بينَ أُذنِي وعاتقي ما تريدُ
أي في عنقي، وهذا الذي ذكرناه عليه أكثر المتقدمين، وقد شرحته جهدي.