ولماذا موضع آخر، وهو أن يجعل ذا مع ما بمنزلة اسم واحد، كما جعلوا ما وإن حرفاً حين قالوا: إنما وكأنما وحيثما في الجزاء، وعلى هذا قوله تعالى:) ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا (، أي: أيُّ شيء أنزل ربكم؟ فقالوا: أنزل خيراً.
وأنشدنا أبو علي الفارسيّ رحمه الله في جعل ذا مع ما بمنزلة اسم، قول جرير:
يا خزرَ تغلبَ ماذا بالُ نسوتكمْ ... لا يستفقنَ إلى الدَّيرينِ تحنانا
وقال: أترى أنه لا يحتمل في معنى البيت أن يجعل ما بمعنى الذي على وجه من الوجوه.
[بيت معاياة]
أنشده:
خذوا بأبي أمِّ الرِّئالِ فأجلفتْ ... نعامتهُ من عارضٍ يتلهَّبُ
يعني بأبي أم الرئال: قطرى بن الفجاءة، لأنه كان يكنَّى أبا نعامة، والنعامة أم الرئال، وقوله: أجفلت نعامته، يريد أنه انهزم لما حدوا به. ويقال أيضاً: شالت نعامته، وزفَّ رأله، وطار طائره، ويعني بالعارض سحابة حرب، وأراد بالتلهب: تأجُّج نارها وبريق سلاحها.
سأل بعضهم فقال: أي شيء يرجع إلى مربع ومصيف، من قولك: لعينيك من ماء الشؤون وكيف؟ وبأي شيء يرتفع: مربع ومصيف، إذا لم يكونا خبر المبتدأ؟ والجواب: أن الرسم ههنا مصدر، والمعنى: أمن أن رسم دارٍ مربع ومصيف تبكي، كما تقول: أمن أكل الخبز زيد تبكي، والمصدر يضاف إلى مفعوله كما يضاف إلى الفاعل، فدار المضاف إليه في موضع المفعول، والمربع في موضع الفاعل، كما أن الخبر مما مثلنا به في موضع المفعول، وزيد في موضع الفاعل.
[فصل]
[من النوادر]
حكى أبو العباس ثعلب عن الفراء قال: يقال لما يبقى من الماء في القدح أو في غيره: السُّؤر مهموز، وللفضلة من النبيذ في القنينة: البَسيل، ولما يبقى من المسك في الفأرة: العِتْرة، ولما يبقى في الإناء من العسل: الجلس، ولما يبقى من الرماد في الموقد النار: الأُسُّ، ولما يلتزق من الخبز بالتنور: القُرَامة، ولما يبقى في الخليَّة ويختلط بما يموت من النحل: المحارن، ولما يبقى في البطن من الطعام ولا يخرج مع النَّجْو: الثَّميلة، ولما يبقى في المِخلاة من الشعير: البغيث، ولما يبقى من الطيب في المُدهن: الصُّوار، قال، وقال أعرابي لامرأته: تعهدي الصُّوار فإن ريحك نَغِلة، ولما يبقى في الجفنة من العجين: فَرَزْدقة، ولما يبقى في القصعة من الثريد: الرُّكْحة، ولما يبقى على الخوان من العجين بعد الخبز: الجحفة، ولما يبقى من الدقيق على الخوان: اللُّواثة، يقال: لاثت قرصها باللِّواث، ولما يبقى من الماء وينقطع عن البحر: الخليج، ولما يبقى منه في النُّقر والحُفر بعد إقلاع المطر: الحُسيّ، ولما يبقى في الأرض من الحصى إذا تبدد أكثره: الجُلَيْهة، ولما يبقى من الحنَّاء ومن الخضاب: العُصُم، قال: وبعثت فتاة إلى أخرى: ابعثي لي عصم حنَّائك، ولما يبقى من الصوف بعد ندف الندَّاف: البُقامة، ولما يبقى في الرحى من الدقيق بعد ما يؤخذ طحينها: النُّباغة، ولما يبقى في النخلة بعد ما يُصرم من الرَّطب: الكُرابة، ولما يبقى في الحوض من الماء: الفراشة، ولما يبقى من القطن بعد الندف: السَّابخ، ولفات العيدان: القُصارة، ولما يتفرك من السنبل: العصافة.
[مسألة من التنزيل]
قوله تعالى:) قد أنزل اللهُ إليكم ذِكراً رسولاً (، يجوز أن يكون الإنزال بمعنى الخلق، كما قال تعالى في موضع آخر:) وأنزلنا الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ (، وفي أخر:) وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ (، ويكون الذكر محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكون الكلام على حذف المضاف، كأنه صاحب ذكر رسولاً، وينتصب رسولاً على الوصف، وإن شئت على الحال، وقد يجوز أيضاً أن يكون محمولاً على فعل آخر، كأنه قال: قد أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل رسولاً إلاّ أن يكون الإنزال بمعنى: التنزيل، والذكر: القرآن، ويجوز أن ينتصب رسولاً على أن يكون معمول الذكر، مثل قوله تعالى:) أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيماً (، ومثل قوله:) رزقاً، شيئاً (، ويقوى حمل الذكر على الإنزال قوله:) إنا نحنُ نزَّلنا الذِّكر (، وفي موضع آخر:) وأنزلنا إليكَ الذِّكر (فكما أن الذكر يكون محمولاً على التنزيل كذلك يكون محمولاً على الإنزال، وهما بمعنى واحد. فاعلمه.