وذكر بعضهم أن المراد بقوله: طائره، ما تطير الإنسان إليه أو منه من محبوب أو مكروه، قال: وهذا كما كانت العرب تذهب إليه في زجر الطير والاستدلال به على الأمور الكائنة، قال الله عز وجل حاكياً عن قوم في مخاطبة نبيهم لما تطيروا وفي جوابه لهم:) قالوا اطَّيَّرنا بكَ وبمن معكَ قالَ طائركم عندَ اللهِ (، وعلى هذا قول المسلمين في التبرؤ من الزجر: اللهم لا طير إلاّ طيرك، ولا خير إلاّ خيرك، ولا رب غيرك. فيكون المعنى: كل إنسان ألزمناه جزاء طيرته في عنقه، ويكون مجازه وبيانه على ما ذكرت، وهذا الكلام فيه ردع شديد وزجر عن مواقعة الذنوب بليغ، لأن المراد إذا علم لزوم علمه له وتيقن مواقعته عليه ارعوى عن كثير مما يهوى، وقد فسر الله تعالى ذلك وبين الحال فيه بقوله:) ونخرجُ يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً (، فقوله:) نخرج له كتاباً (، انتصب كتاباً على أنه مفعول، ودليل الآية قوله:) هذا كتابنا ينطقُ عليكم بالحقِّ (، وقوله:) يلقاهُ منشوراً (في موضع الصفة لكتاب، ودليله قوله:) وإذا الصُّحفُ نُشرتْ (، فأما قوله:) اقرأ كتابكَ (فهو على إضمار القول، كأن المراد: ونقول له اقرأ كتابك، أو: ويقال له اقرأ كتابك.
ويروى عن الحسن أنه قال: لقد أنصفك يا ابن آدم من جعلك حسيب نفسك، وإنما أعلمنا جل جلاله أمر الحفظة ومن يحصي علينا أعمالنا، التقوى الرواعي في الارتداع عن المعاصي، وقوله:) كفى بنفسكَ اليومَ عليكَ حسيباً (، إن قيل: هلا قال عليك ولك، لأن الكتاب المتوعد به لا شك اشتمل على ما له من الحسنات، وعليه من السيئات، ولأن الوعيد إذا قارنه النَّصفة وبنى عليها، كان أبلغ في الوعظ، فالجواب: أن لفظة عليك يجوز أن يتعلق بقوله: اقرأ، كأنه قال: اقرأ كتابك عليك كفى بنفسك حسيباً، وموضع بنفسك رفع على أنه فاعل كفى، وحسيباً انتصب على الحال أو التمييز، ولولا مجانبة التكرار لكان الأوجه أن يقال: اقرأ كتابك على نفسك، لأن الأكثر في الاستعمال في باب الأمر أن يقال: اتخذ لنفسك كذا، واجعل لنفسك كذا، لمنه كره أن يقال: اقرأ كتابك على نفسك كفى بنفسك، فهذا وجه. ويجوز أن يتعلق بقوله: كفى، كأنه قال: كفى نفسك عليك من حسيب، ويكون موضع عليك نصباً على الحال، أي: كفى نفسك وهي عليك لا لك ومعك، ويكون المعنى مثل ما اشتمل عليه قوله في موضع آخر:) يومَ تشهدُ عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (، ويجوز أن يتعلق بقوله: حسيباً، وهو في موضع الحال، أي: كفى نفسك مستوفياً عليك اليوم، لأن معنى الحسيب والمستوفي والمحاسب واحد، وما أعلم أحداً شرح هذه الآية بمثل ما ذكرنا.
[مسألة من الأبنية]
قال سيبويه: لم يجيء من المعتل اللام مفعِل بكسر العين، فإنما جاء بالفتح نحو: المرمى والمدعى والملمى، وقال الفراء: قد جاء عليه حرفان وهما: مأقي العين ومأوي الإبل. أما تمثيل مأق بأنه مفعِل فغلط، وذاك أن في هذه الكلمة عدة لغات: موق، ومأق، وماق، في وزن قاض، وكل ذلك يشهد بأن الميم من الكلمة فاء الفعل، ولا يجوز أن يكون مما فيه لغتان فيكون الحرف الواحد في إحدى اللغتين منهما أصلياً في الأخرى زائداً، لأن ما هذا سبيله لا بد من دلالتهم عليه في تصاريف الكلمة، ولم يسمح في شيء يوجب خلاف ما ذكرت.
وأما مأوي الإبل، فغريب لا يعتدُّ به، فإن قيل: فمن اللغات فيها مأقى، فعلى هذا ما وزنه؟ قلت: وزنه فعلَى، وكأن الزيادة فيه دخلت على فعل فصار فعلى، ويكون زيادة الهاء في آخر هذا كزيادة الألف في قبعثرى، والنون في كنهبل، وقرنفل، وانقحل، في أنها لا تكون للإلحاق ولكن اتحد بها بناء متجدد.
فأما مأق في وزن قاض فهو فاعل مقلوباً، أصله مائق، فقدم القاف على الهمزة فصار مأقي، وألزموها الإبدال تخفيفاً كما فعل بالذّريَّة والدَّويَّة وما أشبهها، ويشهد لهذا ما حكاه أبو زيد من تخفيف الهمزة فيه، وأنه جمع على مواق ومواقي جميعاً.