ولا يدخل عليه قولهم للفقير: ما أفقره، وللغني: ما أغناه، وللممكن والمتمكِّن: ما أمكنه، وللمقيم والمستقيم: ما أقومه، وإن كان الفعل الماضي منها افتقر واستغنى واستقام وأمكن وتمكَّن، لأنهم إنما أخرجوه على فقر وغني وقام، وإن كان بعض هذه لم يستعمل استغناء بغيره عنه، وقد قال سيبويه: هم يستغنون بالشيء عن الشيء، ألا تراهم قالوا: هو يذرُ ويدَعُ، ولم يقولوا: وذَرَ ولا ودعَ استغنوا عنهما بترك، وقال أيضاً في غير موضع: وقد يجري الشيء على ما لا يستعملونه في كلامهم نحو قولهم: ملامح ومذاكير ومحاسن، ونحو مصغَّرات لا مكبَّر لها نحو: كُميت وكُعَيت، إلى غير ذلك مما يكثر.
وقد جاء في هذا الباب ما ليس له أفعل، قالوا: ما أشغله، وهو مشغول، وما أجنَّه، وهو مجنون، وما أملاه، وهو مملوء، كأنهم أضافوا الفعل إلى هذه الأشياء، لأنهم يقولون: ما أفعله، فيما يكون الفعل منه، ألا ترى أنهم يقولون: ما أضربه، إذا كان مضروباً، وإنما قالوا هذه لأنهم جعلوا المشغول صاحب شغل، والمجنون صاحب جنون، والمملوء صاحب ملء، فكأنهم جعلوا الشغل والجنون والملء لها وأجروها، كأنهم قالوا فيها: قد فعلت وإن لم يكونوا قالوه.
ومما يسهل هذا ويقرب أنهم ربما جاؤوا بالصفة على قياس الفعل، ولا يتكلمون بفعلها، قالوا: رجل أظفر، للطويل الأظفار، وأعين للكبير العين، وأعنق للطويل العنق، وكذلك رجل أشعر، وكبش أصوف، كأنهم قالوا فيها: كأنها قد فعل وإن لم يتكلموا به، ولا يدخل عليه قولهم: ما أنوكه، وما أحمقه، وأهوجه، وأرعنه، وما أعمى قلبه، لأن هذه الأشياء فارقت الخلق بدلالة أن الإنسان يعاتب عليها كلها ويوبَّخ.
فإن قيل: زعمت أن ما كان ثلاثياً أو على أفعل خاصة على طريقة سيبويه، يتعجَّب منه ب: ما أفعله، وقد قالوا: ما أشد سكره، والفعل منه سَكِر، ولم يقولوا: ما أسكره، وكذلك يقولون: ما أشدَّ جوابه، ولا يقولون: ما أجوبه، والفعل منه أجاب، قلت: أول ما في هذا أن ما ادعيته علينا لم نقله، وذلك أنا قلنا: فعل التعجب لا يبنى إلاّ مما كان على ثلاثة أحرف أو من أفعل خاصة، ولم نقل: كل فعل ثلاثي، أو على زنة أفعل يبنى منه للتعجب البتة.
وإذا كان كذلك فقد سقط ما أردت إلزامه، على أنا قد قدمنا أنهم يستغنون بالشيء عن الشيء فلا يستعملونه وإن كان القياس يقتضيه. وإذا ثبت ذلك وكان قولهم: ما أسكره، لو قيل: وما أشد سكره، وما أجوبه، لو قيل: ما أشد جوابه، في أنهما عبارتان عن معنى واحد ك: ما أضربه، وما أكثر ضربه، وما أحسنه، وما أتم حسنه، لم يمتنع أن يستغني بأحدهما عن الآخر، كما كان ذلك في: تركَ، ووذرَ، ونظرائهما، فإن قيل: كيف يصحُّ لكم ما أسَّستم الكلام عليه وقد قالوا: ما ألسنه، بمعنى: ما أبينه وأنطقه، كما يقال: رجل لسن، وقد لسنَ يلسنُ لسناً، وكذلك أرادوا بطول اللسان الطلاقة والفصاحة، ولا يريدون اللسان وطوله.
وإذا كان الأمر كما قلناه بأن سقوط هذا الكلام وظهر أنه غلط من السائل أو مغالطة وهذا ظاهر.
[مسألة من التنزيل]
قوله تعالى:) وإذا قيلَ لهم ماذا أنزلَ ربَّكمْ قالوا أساطيرُ الأولين (، حكى أبو عمر الجرمي في هذا أنه سمع أبا زيد الأنصاري يقول فيه: لم يعترفوا، ومعنى هذا أنهم لما قيل لهم:) ماذا أنزل ربكم (لم يعترفوا بالإنزال فيه، ولكن أعرضوا عن الجواب وقالوا: هو) أساطيرُ الأولين (وليس بمنزل، فلا يكون على هذا محمولاً على أنه خبر المبتدأ الذي هو الذي، كأنه قال: الذي أنزل أساطير الأولين، ولكنهم تركوا البناء على هذا ولأضمروا هو معرضين عن السؤال، وقائلين: هو أساطير الأولين، لأنهم دفعوا أن يكون منزلاً.
ويجوز أن يحمل على وجه آخر، وهو: أن يكون أساطير مبتدأ، وخبره مضمر، كأنه قال: أساطير الأولين أنزله عندكم وفي اعتقادكم، فأخرج الكلام مخرج الحكاية عنهم، كما قال في موضع آخر: يا أيُّها الساحر ادعُ لنا ربَّك على حكاية كلامهم.
ومثل الرفع في أساطير قولك للرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، وفي جواب: كيف أصبحت؟ صالحٌ. وقول لبيد بن ربيعة على هذا:
ألا تسألانِ المرء ماذا يحاولُ ... أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ