للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا يعير رجلاً بأنه صائد، وأنه يشتري التمر بجلود الوحش فيأكله، فقوله: فعنهم، أي فأصب عيونهن، يقال: عنت الرجل، أصبته بعين، أو رميت عينه فأصبتها، قوله: فاسبب أي أصب سبَّاتهن بالسهام وعلى الأدبار، وهذا مما يوصف به حذق الرامي، لأنه إذا رمى عيونها وسباتها سلمت الجلود من الثقب فلم يكسد في البيع، وأنشد في بعضهم:

إذا ما تولُّوا سبَيْناهمُ ... وإن أقبلوا فهمُ من نسُرْ

نسر: نرمي سررهم فنصيبها، كذلك يقال من كل أعضاء البدن، يقال: وجهته وبطنته: أي أصبت بطنه ووجهه، وكذلك جميع الأعضاء، يقال: نِبتهُ، أي: أصبت نابه، لأنه من بنات الياء، كما يقال: بِعته، وسُقته، أي: أصبت ساقه، لأنه من بنات الواو، مثل: قُلته، ويقول: رأيته، أي: ضربت رئتيه، وفأدْتُه، أي: أصبت فؤاده، فهو مفؤود.

[مسألة]

سأل بعضهم عن قول القائل: عَذيري من فلان، ومن يعذرني من فلان، وعن موضعه في الكلام وفائدته.

اعلم أن هذه اللفظة، أعني من يعذرني من فلان، ينوب عنها: من عاذري من فلان، وعذيرك من فلان، ومن عذيري من فلان، فأما من يعذرني من فلان، فقال الخليل فيه: معناه من يلوم فلاناً ولا يلومني، ويقال: عذرته عذراً وعذرا ومعذرة وعذرةً وعذرى وعذيرا، ويستعمل أعذرت في معنى عذرت، وتقول: من عذيرك من فلان، والمعنى: من يعذرك من فلان وأنشد بعضهم:

يا قومُ من عاذرى من الجَدَعةْ

وأنشد أيضاً قول عمرو بن معد يكرب:

أريدُ حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيرُكَ من خليلكَ من مُرادِ

وينشد:

عذيرُ الحيِّ من عدوا ... نَ كانوا حيَّةَ الأرضِ

وذكر أبو سعيد السيرافي رحمه الله في قول القائل: من يعذرني من فلان، أنه يفسر على وجهين، أحدهما أن يكون المعنى: من يعذرني في احتمالي إياه على ما أحتمله عليه، والثاني: أن يكون معناه: من يذكر عذر فلان لي، ثم ذكر أن المفضل بن سلمة اللغوي أنكر على سيبويه حين جعل العذير مصدراً واستضعف طريقته فيه، وقال: إن المصادر على فعيل بابه الأصوات، كالصَّهيل، والنَّهيق، والشَّحيج، والهدير، وما أشبهه، وإنه في غير هذا الباب يقل، فعلى طريقته يجب أن يكون عذير صفة لا مصدراً، لأن الأكثر عليه في غير الأصوات، فيكون عذير وعاذر، كشهيد وشاهد، وقدير وقادر، فكأن القائل إذا قال: عذيرك من فلان معناه: هات عذيرك، واحضر عاذرك، وهات من يعذرك، وكذلك إذا قال: من عذيري من فلان، فالمعنى: من عاذري.

واعلم أن أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو سعيد في تفسير من يعذرني من فلان، وهو: من يذكر لي عذر فلان عندي، بعيد، إذ لم أجد في اللغة: اعذرني من زيد، بمعنى اذكر لي عذره، فأما الوجه الآخر مما حكاه، وهو: من يعذرني في احتمالي فلاناً فهو طريقه، إلاّ أنك تقول: عذرت فلاناً، إذا بسطت عذره، وأعذرته أيضاً، وما فسر به الخليل: من يعذرني من فلان، أي: من يلوم فلاناً ويدع لومي، هو المختار في تفسير ذا اللفظ، ألا ترى أن الخليل قال، إنهم يقولون: ألا تعذرني من فلان، قال: ومعناه أن يكون الرجل مطلوباً من جهة فلان، فكأنه استعذر من مخاطبه متقدماً في الشكوى من فلان، ومبيناً عذر نفسه فيما يكون من عقوبته، أن أختار معاقبته، وأنه جاء في الحديث المروي: لن يهلك الناسُ حتَّى يعذروا من أنفسهم، والمعنى: حتَّى من رجعوا باللَّوم على أنفسهم من كثرة ذنوبهم، ويعذروا مؤاخذهم ومخاصمهم على ما يكون منهم. وقد فسر بعض أهل اللغة هذا الحديث على أن معناه: حتَّى يكثّر عيوبهم وذنوبهم، وهذا الرجل لم يأت بتفسيره على حدة، ولا تحقيقه الكلمة، وإن كان لا بد من كثرة الذنوب منهم، فأما ما أنكره المفضل بن سلمة على سيبويه فغير منكر، لأن المصادر في غير باب الأصوات قد جاءت على فعيل كثيراً، وذلك: كالنَّكير، واللَّهيب، والوجيب، والرَّسيم، والخبيب، والشَّميم، وما لا يتسع لذكره.

<<  <   >  >>