فقال عبد الملك: وأين من الله والسلطان لا أمَّ لك، فقال: يا أمير المؤمنين، من عامل إلى عاجل، ومصدِّق إلى مصدق. فلم يحظ منه بشيء، إذ كان عبد الملك ثقيل النفس عليه لما كان من تزبُّر قومه وكانت قيس كلها زبيرية، وكان يقال إن عند الراعي من إبل عثمان لإبلاً، فعاوده من قابل فأنشده:
أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حلوبتهُ ... وفقَ العيالِ فلم يتركْ له سبدُ
واختلَّ ذو المالِ والمثرونَ قد بقيتْ ... على التَّلاتلِ من أموالهمْ عقدُ
فإن رفعتَ بهم رأساً نعشتهمُ ... وإن لقوا مثلها من قابلٍ فسدوا
فقال عبد الملك: أنت العام أعقل منك عاماً أول.
[والقصيدة الأولى]
ما بالُ دفُّكِ بالفراشِ مذيلا ... أقذًى بعينكَ أمْ أردتَ رحيلا
لما رأتْ أرقي وطولَ تقلُّبي ... ذاتَ العشاءِ وليليَ الموصولا
قالتْ خليدةُ ما عراكَ ولم تكنْ ... بعد الرُّقادِ على الشُّؤونِ سؤولا
أخُليدَ إنَّ أباكِ ضافَ وسادهُ ... همَّانِ باتا جنبةً ودخيلا
طرقا فتلكَ هماهمي أقريهما ... قلصاً لواقحَ كالقسيِّ وحولا
شمُّ الحواركِ جنَّحاً أعضادها ... صهباً تناسبُ شدقماً وجديلا
حوزيَّةً طويتْ على زفراتها ... طيِّ القناطرِ قد بزلنَ بزولا
بُنيتْ مرافقهنَّ فوقَ مزلَّةٍ ... لا يستطيعُ بها القرادُ مقيلا
كانت نجائبَ منذرٍ ومحرِّقٍ ... أمَّاتهنَّ وطرقهنَّ فحيلا
فكأنَّ ريِّضها إذا ياسرتها ... كانت معاودةَ الرَّحيلِ ذلولا
وكأنَّما انتطحتْ على أثباجها ... فُدرٌ بشابةَ قد تممنَ وعولا
قذفَ الغدوِّ إذا غدونَ لحاجةً ... دلفَ الرَّواحِ إذا أردنَ قفولا
قوداً تذارعُ غولَ كلِّ تنوفةٍ ... ذرعَ النَّواسجِ مبرما وسحيلا
في مهمهٍ قلقتْ به هاماتها ... قلقَ الفؤوسِ إذا أردنَ نصولا
فإذا تعرَّضتْ المفازةُ غادرتْ ... ربداً يبغِّلُ خلفها تبغيلا
زجلَ الحداءِ كأنَّ في حيزومهِ ... قصباً ومقنعةَ الحنينِ عجولا
وإذا ترجَّلتِ الضُّحى قذفتْ به ... فشأونَ عقبتهُ فظلَّ ذميلا
يتبعنَ مائرةَ اليدينِ شملَّةً ... ألقتْ بمُخترقِ الرياحِ سليلا
جاءتْ بذي رمقٍ لستَّةِ أشهرٍ ... قد ماتَ أو جرضَ الحياةَ قليلا
نفضتْ بأسحمَ للرواحِ شليلها ... نفضَ النَّعامةِ زفَّها المبلولا
لا يتَّخذنَ إذا علونَ مفازةً ... إلاّ بياضَ الفرقدينِ دليلا
حتَّى وردنَ لتمِّ خمسٍ بائصٍ ... جُدّاً توارثهُ الرِّماحُ وبيلا
سدماً إذا التمسَ الدِّلاءُ نطافهُ ... صادفنَ مشرفةَ المثابِ دحولا
جمعوا قوًى مما تضمُّ رحالهمْ ... شتَّى النَّجارِ ترى بهنَّ وصولا
فسقوا صواديَ يسمعونَ عشيَّةً ... للماءِ في أجوافهنَّ صليلا
حتَّى إذا بردَ السِّجالُ لُهاثها ... وجعلنَ تحتَ غروضهنَّ ثميلا
وأفضن بعدَ كظومهنَّ بجرَّةٍ ... من ذي الأبارقِ إذ رعينَ حقيلا
جلسوا على أكوارها فترادفتْ ... صخبَ الصَّدى جدع الرِّعانِ رجيلا
ملسَ الحصى باتتْ توجَّسُ فوقهُ ... لغطَ القطا بالجلهتينِ نزولا
حتَّى إذا انجلتِ الدجى وتلفَّتتْ ... فرأتْ أوابدَ يرتعينَ هجولا
وجرى السَّرابُ وألحقتْ أعجازها ... مقطٌ يكونُ وقوعها تحليلا
وجرى على حدبِ الصُّوى فطردْنهُ ... طردَ الوسيقةِ بالسَّماوةِ طولا
أبلغ أميرَ المؤمنينَ رسالةً ... شكوى إليكَ مطلَّةً وعويلا
من نازحٍ كثرتْ عليه همومهُ ... لو يستطيعُ إلى اللِّقاءِ سبيلا
طالَ التقلُّبُ والزَّمانُ ورابهُ ... كسلٌ ويكرهُ أن يكونَ كسولا
ضافَ الهمومَ وسادهُ وتجنَّبتْ ... ريَّانَ يصبحُ في المنامِ ثقيلا
فطوى الفؤادَ على قضاءِ صريمةٍ ... حذَّاءَ واتَّخذَ الزَّماعَ خليلا
وعلا المشيبُ لداته ولقد مضتْ ... حقبٌ نقضنَ مريرهُ المجدولا
فكأنَّ أعظمهُ محاجنَ نبعةٍ ... عوجٌ قدُمنَ فقد أردنَ نحولا
كحديدةِ الهنديِّ أمسى جفنهُ ... خلقاً ولم يكُ في العظامِ نكولا