من كلِّ آنسةٍ كأنَّ نيوبَها ... بردُ مسقطِ روضةٍ محلالِ
هطلٌ كغادي السّلمِ يجري صعده ... فوق الرّجاجةِ عن أجبَّ ثقالِ
من تؤتهِ أشفى على ما فاتهُ ... منها وإنْ لم تجزِه بنوالِ
ومعاكبٌ عرضتْ وكشحٌ مضمرٌ ... جالَ الوشاحُ عليهِ كلَّ مجالِ
وعجيزةٌ ريَّا وساقٌ خدلةٌ ... بيضاءُ تسكتُ منطقَ الخلخالِ
حتَّى إذا ملثَ الظَّلامُ وفِتنني ... غلبَ العزاءُ وهنَّ غيرُ أوالِ
[خبر مجنون ليلى]
ذكروا أن كثيّراً دخل على عبد الملك فقال له: أنشدني شيئاً قلته في عزة، فقال: بل أنشدك ما امتدحتك به، فقال: أسألك بحق أبي تراب، ألا أنشدتني شعرك في عزة، فقال: سألتني بحقٍ عليّ عظيم، فجعل ينشده وعيناه تهملان، فقال عبد الملك: ما أشد حبك لعزة، فهل رأيت قط أحداً كان أشد حباً منك؟ قال: أخبرك يا أمير المؤمنين: خرجت، وقد هاج بي الشوق، وذكر عزة، وكانوا قد انتجعوا نجعة قريباً من الحي، حيناً، فمررت برجل قد نصب شركاً له وهو منعزب عن الحي، فملت إليه، وقلت: هل من قِرى؟ فقال: أنا عازب عن الحي، وقد نصبت حبائلي، فاصبر قليلاً أحش عليك الظباء، فإن وقع في الحبال شيء أكلنا جميعاً، فإني لما أطعم شيئاً منذ ثلاث، فمضى يحوش، فوقعت في شركه أدماء عوهج فأسرع نحوها، وأنا منه حيث أرى وأسمع، فطفق يمسح التراب منها، ثمَّ أطلقها وأعاد الحبالة وأقبل إلي، فقلت: يا هذا، هل رأيت أحداً صنع صنيعك، إنا جميعاً نشكو الغرث، حتَّى إذا أتى الله بالفرج أرملتنا من زادنا؟ قال: ويحك، إني نظرت إليها وإلى عينيها فشبهتها بمن أهوى، فهل رأيت من يأكل شبه حبه، وأنشأ يقول:
أيا شبهَ ليلى لا تُراعي فإنَّني ... لكِ اليومَ من بين الوحوشِ صديقُ
أقولُ وقد أطلقتُها من وثاقِها ... لأنتِ لليلى إنْ شكرتِ طليقُ
ثمَّ قال: أقم، فإن وقع شيء أكلنا، فأقمت طمعاً في أن يمنعه الجوع من أن يعود لمثل فعله، فوقع في شركه ظبي، فسعى نحوه، وأطلقه فعدا، وأنشأ يقول:
أيا شبهَ ليلى لو تلبَّثْتَ ساعةً ... لعلَّ فؤادي من جواه يفيقُ
وما إنْ أشبهتَها ثمَّ لم تؤبْ ... سليما عليها في الحياةِ شفيقُ
فقلت: ويحك، أجهدنا الجوع، وتركته، علماً بأنه مجنون من الحب، ثمَّ مررت على ظباء ترعى فقلت: إن دللته عليها رجوت أن يحوشها، ويمنعه من إطلاق ما تقع في حبالته منها علمه بأنها طريدتي فيأكل ويطعمني، فرجعت إليه وقلت: ألا ترى إلى تلك الظباء ساكنة ترتعي؟ فقال: هيهات، إني رأيت ليلى ترتع في هذه الروضة وتلعب وإني قلت:
رأيتُ ظباءً ترتعي وسطَ روضةٍ ... وكنتُ أرى ليلى فلنتُ لها دهرا
فيا ظبيُ كلْ رغداً هنيئاً ولا تخفْ ... فإنِّي لكم جارٌ وإنْ خفتمُ دهرا
ثمَّ مضى وتركني، فهذا يا أمير المؤمنين أعشق عاشق رأيت. قال: فمن تراه؟ قال: المجنون قيس بن الملوح، وهو من بني عامر بن صعصعة، ومما قصد من شعره في التياث عقله كلمته.
[قصيدة مجنون ليلى]
تذكَّرتُ ليلى والسّنينُ الخوالِيا ... وأيامَ لا نعدَى على اللَّهوِ عادِيا
فقلتُ ولم أملكْ أكعبَ بنَ عامرٍ ... لحبٍّ بذاتِ الرَّقمتينِ بدالِيا
إذا نحنُ أدلجْنا وأنتِ أمامِنا ... كفى لمطايانا بذكراكِ هادِيا
ذكتْ نارُ شوقٍ في فؤادي فأصبحتْ ... لها لعبٌ مستضرمٌ في فؤادِيا
هي السِّحرُ إلاّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً ... ومثلي لا أُلفي لما بي راقِيا
وحدَّثتُماني أنَّ تيماءَ منزلٌ ... لليلى إذا ما الصَّيفُ ألقى المراسِيا
فهذي شهورُ الصَّيفِ أمستْ قدْ انقضتْ ... فما للنَّوى ترمي بليلى المرامِيا
يلومكَ فيها ابْنا كليبٍ سفاهةً ... فليتَ الهوى يابْنيْ كليبٍ مكانِيا
ولو كانَ واشٍ باليمامةِ دارهُ ... وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا
وماذا لهمْ لا حسَّنَ اللهُ حفظهمْ ... من الحظِّ في تصريمِ ليلى حبالِيا
فلو كنتُ أعمى أخبطُ الأرضَ بالعصا ... أصمَّ فنادتْني أجبتُ المنادِيا
وأخرجُ من بين الجلوسِ لعلَّني ... أحدِّثُ عنكِ النَّفسَ يا ليلُ خالِيا