وحدثوا أن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزنيّ، كتب إلى أخيه بجير، وكان بالمدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، سابقاً بإسلامه ورشده كعباً بهذه الأبيات:
من مبلغٌ عنِّي بُجيراً رسالةً ... فهل لك فيما قلتُ ويحكَ هل لكا
شربتَ بكأسٍ عند آلِ محمدٍ ... فأنهلكَ المأمونُ منها وعلَّكا
فخالفتَ أسبابَ الهدى وتركتهُ ... على أيِّ شيءٍ ويبَ غيركَ دلَّكا
على خلقٍ لم تُلفِ أمّاً ولا أبا ... عليه ولم يوجد عليه أبٌ لكا
قالوا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. وأجابه بجير فقال:
من مبلغٌ كعباً فهل لك في التي ... تلومُ عليها باطلاً وهي أحزمُ
إلى الله لا العزَّى ولا اللاتِ وحدهُ ... فتنجو إذا كان النَّجاءُ وتسلم
لدى يومِ لا ينجو وليسَ بمفلتٍ ... من النَّارِ إلاّ طاهرُ القلبُ مسلمُ
فدين زهيرٍ وهو لا شيءَ غيرهُ ... ودينُ أبي سلمى عليَّ محرَّمُ
وكان كعب قد نال من رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بعض شعره، فلما انصرف صلى الله عليه وسلّم من فتح الطائف. همَّ بقتل من كان يؤذيه من شعراء المشركين: أمية بن خلف، وابن الزبعري، وكعب بن زهير، فبعث بجير إليه أن خذ حذرك وانج إلى نجائك من الأرض، فإنه قد همَّ بقتل من كان يؤذيه من شعره، إلاّ أن تأتيه مسلماً تائباً، فأتى كعب مزينة فأبت أن تؤويه، وأقبل حتَّى أتى المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال الرجل: هذا رسول الله، فقم إليه واستأمنه، فقام إليه حتَّى جلس بين يديه، ووضع يده في يده، وكان صلى الله عليه وسلّم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله: إنَّ كعب بن زهير قد جاء يستأمنك مسلماً تائباً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم، قال: فأنا يا رسول الله كعب بن زهير وأنشده.
[قصيدة كعب بن زهير]
بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ ... متيَّمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعادُ غداةَ البينِ إذ رحلوا ... إلاّ أغنَّ غضيضُ الطَّرفِ مكحولُ
تجلو عوارضَ ذي ظلمٍ إذا ابتسمتْ ... كأنَّهُ منهلٌ بالرَّاحِ معلولُ
شُجَّتْ بذي شبمٍ من ماءِ محنيةٍ ... صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ
تنفي الرِّياحُ القذى عنه وأفرطه ... من صوبِ ساريةٍ بيضٌ يعاليلُ
فيا لها خلَّةً لو أنَّها صدقتْ ... ميعادها أو لو أنَّ النُّصحَ مقبولُ
لكنَّها خلَّةٌ قد سيطَ من دمها ... فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
فما تدومُ على حالٍ تكونُ بها ... كما تلوُّنُ في أثوابها الغولُ
وما تمسَّكُ بالعهدِ الذي زعمتْ ... إلاّ كما يمسكُ الماءَ الغرابيلُ
فلا يغرَّنكَ ما منَّتْ وما وعدتْ ... إنَّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ
كانتْ عواقبُ عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيدهُ إلاّ الأباطيلُ
أرجو وآملُ أن تدنو مودَّتها ... وما لهنَّ طوالَ الدَّهرِ تنويلُ
أمستْ سعادُ بأرضٍ لا يبلِّغها ... إلاّ العتاقُ النجيباتُ المراسيلُ
ولن يبلِّغها إلاّ عذافرةٌ ... منها على الأينِ إرقالٌ وتبغيلُ
من كلِّ نضَّاخةِ الذِّفرى إذا عرقتْ ... عرضتها طامسُ الأعلامِ مجهولُ
يرمي الغيوبَ بعينيْ مفردٍ لهقٍ ... إذا توقَّدتِ الحزَّانُ والميلُ
ضخمٌ مقلَّدها فعمٌ مقيَّدها ... في خلقها عن بناتِ الفحلِ تفضيلُ
حرفٌ أخوها أبوها من مهجَّنةٍ ... وعمُّها خالها قوداءُ شمليلُ
يمشي القرادُ عليها ثمَّ يزلقهُ ... عنها لبانٌ وأقرابٌ زهاليلُ
عيرانةٌ قذفتْ باللَّحمِ عن عُرضٍ ... مرفقها عن بناتِ الزَّورِ مفتولُ
كأنَّ ما فاتَ عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللَّحيينِ برطيلُ
تمرُّ مثل عسيبِ النَّخلِ ذا خصلٍ ... في غارزٍ لم تخوَّنهُ الأحاليلُ
قنواءُ في حرَّتيها للبصيرِ بها ... عتقٌ مبينٌ وفي الخدَّينِ تسهيلُ
تخدي على يسراتٍ وهي لاحقةٌ ... ذوابلٍ مسَّهنَّ الأرضَ تحليلُ
سمرُ العُجاياتِ يتركنَ الحصى زيماً ... بأربعٍ لا تعيها الأكمُ تنعيلُ