قوله تعالى:) وإذا أردنا أنْ نُهلكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول، فدمَّرناها تدميرا (، قرئ: أمرنا بالتخفيف، فيجوز أن يكون من الأمر ضد النهي، ويجوز أن يكون بمعنى كثرنا، يقال: أمرت الشيء فأمر، أي كثرته فكثر، وجاء في الخبر: خير المال مهرةٌ مأمورة أو سكَّة مأبورة.
وأمَّرنا بالتشديد يكون من الإمارة والتسليط، وآمرنا بالمد يكون بمعنى كثرنا لا غير، يقال: أمر القوم وآمرهم الله فيكون زيادة الألف للنقل والتعدية، وجعل أكثر الناس جواب إذا أمرنا على وجوهه المذكورة، وفي كل وجه سؤال، فمن ذلك: إذا سئل في أمرنا بالتخفيف كيف يجوز إرادة الله تعالى إهلاك قوم قبل أن يأمرهم فيقابلوا أمره بالعصيان والفسوق؟ والجواب: أن ذكر الإرادة مجاز، وحقيقته ما سبق في علمه من استحقاقهم للهلاك، وهذا كما يقال: إذا أراد التاجر إفلاسه اشترى بالنقد وباع بالنسيئة، ومن الظاهر أنه لا إرادة منه لذلك، ووجه آخر وهو إذا أردنا في المستقبل إهلاك قرية أمرنا مترفيها في الحال فعصوا، لأنه على هذا يزول منه ما أنكره السائل.
وسئل في أمَّرنا بالتشديد كيف يجوز أن يهلكوا ويسلطوا حتَّى يفسقوا فيهلكوا؟ وهل يكون ذلك إلاّ معونة من الله تعالى في العصيان والفسوق ووجوب الإهلاك؟ والجواب أن الله تعالى يؤَمرهم أن يذر الخير عليهم والنعيم لهم ليشكروا ويعبدوا فإذا خالفوا واستكبروا وعتوا وفسقوا فإنما أتوا من سوء اختيارهم، وعوقبوا وأهلكوا بما قدموا من ذميم أفعالهم، ومثل هذا السؤال والجواب يتأتيان في قراءة من قرأ آمرنا بالمد والتخفيف، وقال بعضهم: جواب إذا محذوف، وقوله:) أمرنا مترفيها (مع ما انعطف عليه صفة، كأنه قال: إذا أردنا ذلك سهل ولم يتعذر.
وقيل: الفاء من قوله: فدمَّرناها زيادة، لأنه الجواب، والمعنى: إذا أردنا إهلاك قرية صفتها أنَّا أمرناها بالطاعة ففسقوا ووجب عليها القول والحكم لما سبق في علمنا بها وبسوء مصيرها دمَّرناها، ومما يدل على جواز زيادة الفاء ما حكاه الأخفش من قول بعضهم: أخوك فوُجد، يراد وُجد، وقول الشاعر:
وإذا هلكتُ فعندَ ذلك فاجْزَعي
ألا ترى أنه لا بد من جعل إحدى الفاءين زيادة. وأجود من هذه الوجوه عندي وأبعدها من الاعتراض والقدح أن يقال: إن الفاء من قوله: فدمَّرناها هي التي يجاب بها الشرط لا العاطفة ولا الزائدة، وذاك أن إذا لما يتضمن من معنى المجازاة يجاب بما يجاب به إن وأخواتها، وإن لم تعمل عملها في الأغلب، وهي تجاب بالفاء لما بعده من المبتدأ والخبر والفعل، وإنما احتيج إلى الفاء لمخالفة الجزاء الشرط، فإذا روى الفعل بعد الفاء فليعلم أن المبتدأ محذوف، ولولا ذلك لما احتيج إلى الفاء، والفعل المستقبل والماضي في ذلك سواء، يشهد لذلك قول عمرو بن المخلاة:
فمن يكُ قدْ لاقَى منَ المرجِ غبطةً ... فكانَ لقيسٍ فيه خاصٍ وجادعُ
وإذا كان كذلك، وكان قوله: أمرنا مترفيها، بما عطف عليه صفة للقرية، فتقدير الآية: إذا أردنا إهلاك قرية مأمورة بالطاعة، عاصية فاسقة، قد حق القول عليها، فنحن ندمرها تدميراً. ومثل ذلك قول الله تعالى:) ومن عادَ فينتقمُ اللهُ منهُ (،) ومنْ كفرَ فأُمتِّعه قليلاً (،) وإنْ يمسسْكمْ قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُه (، ألا ترى أنه رفع الفعل المضارع بعد الفاء لكونه مبنياً على المبتدأ، وأنه لو أراد أن يكون الجواب بالفعل لاستغنى عن الفاء وجزم الفعل، ولكن التقدير: من عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه قليلاً، وإن يمسسكم قرح فالأمر والشأن مسَّ القوم قرح مثله، وإذا كان الفاء من قوله: فدمَّرناها، فالجواب: سلمت الآية من الاعتراضات المذكورة، وسهل طريقها، فاعلمه إن شاء الله.
[مسألة من الآثار]
في حديث أم زرع أن المرأة الخامسة قالت: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، ولا يولج الكفَّ ليعلم البثَّ. قال أبو عبيد: اللّف في المطعم الإكثار منه مع التخليط من صنوفه، والاشتفاف في الشرب أن يستقصي ما في الإناء ولا يُسئر فيه، أُخذ من الشفافة، وهي البقية تبقى في الإناء من الشراب، ويقال في المثل: ليس الرِّيُّ عن التَّشاف.