وقد جعلوا فعل من بنات الواو، ولا يجيء مستقبله إلاّ يفعل، ومن بنات الياء لا يجيء إلاّ يفعل لئلا يختلف البابان ويدخل أحدهما في شيبة الآخر بالاعتلال، وفعِل بكسر العين منهما يلزم مضارعه يفعل، لأن نظيره من الصحيح يكون كذلك، نحو: حذِر يحذر، وعلِم يعلم. والأمر من القول: قل، لما كان مستقبله يقول، والأصل: إقْوُل، فألقيت حركة الواو على القاف، كما في المستقبل، فالتقى ساكنان: الواو واللام، فحذفت الأمر من السير، قالوا: سيْر، والأصل: إسْير، فألقيت حركة الياء على السين كما فعلوا في المستقبل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وطرحت الهمزة للاستغناء عنها، وكذلك الأمر من النوم: نمْ، إنْوم، فألقيت حركة الواو على النون ثم حذفت لالتقاء الساكنين فاستغنيت عن الهمزة، ونظائر هذه الأبنية الثلاثة في الأمر على ما قلناه. والذي يدل على أن أحرف العلة من هذه الأبنية حذفت لالتقاء الساكنين بعد نقل الحركة عنها إلى ما قبلها، أنها ترد إذا تحركت لام الفعل، تقول: قولا، وسيرا، وناما، وفي الجميع: قولوا، وسيروا، وناموا، وفي المؤنث: سيري، وقولي، ونامي، وفي جميع المؤنث لما سكنت لام الفعل ثانياً حذفت، تقول: قلن، وسرن، ونمن يا نسوة، والاعتلال فيها كما ذكرنا من قبل. فإن كان فعلت بفتح العين، حول في بنات الواو إلى فعُلْت، وفي بنات الياء إلى فعِلْت ليمكن إلقاء حركة عينيهما على فائهما، تقول: قلته وبعته، والأصل: قولته وبيعته. فردا إلى قولته وبيعته، ثم ألقي حركة الواو والياء على ما قبلهما فيهما، فاجتمع ساكنان في كل واحد منهما، فحذف الأول لاجتماعهما، وإن كان فعِلت بكسر العين، لاحتاج فيه إلى تغيير نحو: هبْت، وخِفت، كما أن فعُلت بضم العين لا يحتاج فيه إلى تغيير، نحو: طلت تطول فأنت طويل، والأصل: هيِبت وخوِفت فألقيت حركة الواو والياء فيهما على ما قبلهما، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما لاجتماعهما. فإذا بنيت في هذا الباب لما لم يسم فاعله، كان لفظه واحداً، تقول: قيل وبيع، وخيف، والأصل: قوِل، وبُيِع، وخوِف، فألقي حركة الواو، والياء، على ما قبلهما، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فصار: قيل، وبيع، وخيف، وإذا عديتها إلى نفسك كان على صورة ما هو إخبار عنك، تقول: خِفت وبِعت وهِبت، أي خافني غيري، وهابني، وباعني، والأصل: خوِفت، وبيِعت، فألقيت حركة الواو والياء على ما قبلهما فاجتمع ساكنان فحذفت الواو والياء لهما فصارا: بعت، وخفت، ومن العرب من يقول: بوع الشيء، وقول القول، ومنهم من يشم، وكسر الأول أجود، فاعلم.
واعلم أنه لو وقع مكان حرف العلة همزة لصحت، إلاّ ما أجمعوا على حذفه في رأيت، ولهذا أجمعوا على: بريّة، ورويّة، والنّبيّ وقريش كلها لا همز في كلامها، وهذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه خاطبه بعضهم فقال: يا نبيءَ الله، بالهمز، فقال: لست بنبيء الله إنما أنا نبي الله.
والنحويون كلهم على أن هذا من الهمز من النبأ الذي هو الخبر، وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنه لا يمتنع أن يكون من النبوة وهي الارتفاع، كأنه أعطي أرفع المنازل لما كلف من أداء الرسالة.
فأما الروية فلا خلاف أنه من رأوت، والبرية بعضهم يجعله من البرى وهو التراب، والأكثر أن يكون من برأت، أي: خلقت، فإذا قلت: رأيت، فمستقبله يرى، والأصل: يرأى، فحذفت الهمزة استخفافاً وألقيت حركتها على الراء فصار يرى، ثم بني الأمر على المستقبل فصار للحذف إلى العارض فيه واطراده في حكم ما قد اجتمع فيه إعلال فتقول إذا أمرت: ريَا هذا، وهو من الفعل افعل، وهذا الأصل فيه إرأ على مثال: إسعى، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على الراء، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك الراء فصار ريا، هذا ولو وقفت على هذا لكنت تقول: رَه، وإنما زدت الهاء لأن الحرف الواحد لا يتأتى فيه الابتداء به والوقف عليه، فإن ثنيت قلت: ريا، والأصل: أرأيا، وفي الجمع روا والأصل أرأيوا، فلما حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار: روا، لأن الهمزة حذفت من أوله استغناء عنها. وفي المؤنث تقول: ري، والأصل: أرأيي، وفي الثنتين: ريا، وفي النساء: رين، والعلة في جميعه على ما تقدم.