للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك قد نهيتَ عنه. فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا، فإن قلت: قُمْ فأعطيكَ, فالمعنى: ليكن منكَ قيامٌ يوجبُ عَطيتي, وكذلك اقعدْ فتستريحُ، أي: ليكن منكَ قعودٌ تتبعهُ راحةٌ فيقرب معناه من الجزاء إذا قلتَ: قم أعطكَ أي: إن تقم أعطك، وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غيرُ عاطفةٍ إلاّ أنَّ معناها الذاتي يخصها, تفارقهُ, إنها يتبع ما بعدها ما قبلها في كُلِّ موضعٍ, وقالَ الشاعرُ في جواب الأمر:

يَا نَاقُ سِيرِي عَنقًا فَسِيحَا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا١

فقد جعل سير ناقته سببًا لراحتِه، فكأنه قال: ليكن منك سيرٌ يوجبُ راحتَنا, وهذا مضارعٌ لقولهِ: إنْ تسيري نستريحْ؛ ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ جوابًا لشبهه بجواب الجزاءِ، وكذلك إذا قالَ: ادنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ فهو مضارعٌ لقولهِ: ادنُ مِنَ الأسد فيأكلكَ لأن معنى ذاكَ: إنْ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ, ومعنى هذا: ليكن مِنك دنو مِنَ الأسدِ يوجبُ أكلكَ أو يتبعهُ أَكلُكَ، إلاّ أنّ هذا مما لا يؤمر بهِ؛ لأنَّ مِنْ شأنِ الناس النهي عَن مثلِ ذلكَ لا الأمر به، فإنْ أردتَ ذاك جازَ، فإذا قلت: لا تدن مِنَ الأسد يأكلْكَ، لَم يجزْ لأن المعنى أنكَ: تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ, لم يكنْ إلاّ على المجازِ وإن السامعَ يعلمُ ما تعني؛ لأنَّ المعنى: إلاّ تدن مِن الأسدِ يأكلْكَ, وهذا محالٌ لأن البعدَ لا يوجبُ الأكلَ, فإذا قلتَ: لا تدن من الأسدِ فيأكلُكَ جاز؛ لأنَّ النهي مشتملٌ في المعنى على الجميع، كأنه قال: لا يكنْ منكَ دنو مِنَ الأسدِ


١ من شواهد الكتاب ١/ ٤٢١، على نصب الفعل بأنْ مضمرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب الأمر، والعنق: ضرب من السير, والفسيح: الواسع. والبيت لأبي النجم العجلي، وأراد سليمان بن عبد الملك.
وانظر: معاني القرآن ١/ ٤٧٨, والمقتضب ٢/ ١٤، وشرح السيرافي ٣/ ٢٩، وسر صناعة الإعراب ١/ ٢٧٢, وشرح ديوان المتنبي ٤/ ٢٤، واللسان "عنق"، والهمع ٢/ ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>