حرص الصحابة على الأوفر أجرا والأكمل ثوابا ولا شك أن الصلاة خلفه صلى الله وسلم عليه أفضل وأكمل وأتم, وأما الجواب عن حديث معاذ بأنه حكاية فعل فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن وجماهير من أحكام الشريعة مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا لأن الحجة هي تقريره صلى الله وسلم عليه لمعاذ ولقومه على ذلك لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك, وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة فكلام صحيح ولكن الحجة ليست فعل معاذ بل تقريره صلى الله وسلم عليه كما عرفت وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى. والحاصل: أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل فمن زعم أن ثمّ مانعاً في بعض الصور فعليه الدليل فإن نهض به صح ما يقوله وإن لم ينهض به بطل وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل فكما فعله صلى الله وسلم عليه في صلاة الليل وصلى معه ابن عباس وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك والكل ثابت في الصحيح
ويجب المتابعة في غير مبطل لحديث:"إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وهو ثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وأنس وجابر وثابت خارج الصحيح عن جماعة من الصحابة, وورد الوعيد على المخالفة كحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار" أخرجه الجماعة ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته نحو أن يتكلم الإمام أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي, ولا خلاف في ذلك. قال في المسوى: هو كذلك عند الجمهور أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات. وقوله:"إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" منسوخ١. ومعنى كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر على الصحيح أنه كان مسمعا
١ دعوى النسخ هنا لا دليل عليها أصلا بل قد ثبت في الصحيح وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" وكان ذلك إذ قام وراءه قوم يصلون وهو يصلي جالسا فأشار إليهم أن اجلسوا وفيهما عن أنس مرفوعا أيضا: إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون" وفي صحيح مسلم من حديث جابر: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" وهو معنى قد يكون متواترا في السنة وممن قال بصلاة المأموم قاعدا جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس ين فهد من الصحابة. وأحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وابن أبي شيبة والبخاري ومحمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن تبعهم من أهل الحديث. وادعى مخالفوهم النسخ بصلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته بالناس قاعدا وأبو بكر والناس خلفه قياما, رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة. وهذا فعل محتمل أن يكون لبدئهم الصلاة قائمين خلف إمام صلى بهم قائما وهو أبو بكر فلم يجز لهم أن يرجعوا إلى القعود وقد انعقدت صلاتهم بالقيام, ثم إن روايات الحديث مختلفة في أنه كان إماما أو صلى خلف أبي بكر فقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم المقدم. والروايات في هذا متضاربة وهي تدل على أن عائشة سمعت بهذا من الصحابة فاختلفوا عليها ولم تشاهد بنفسها فمرة تجزم ومرة تشك. ولا يترك المحكم الثابت بأشد تأكيد بفعل غير متيقن صفته والأمر بالجلوس منصوص على سببه وهو النهي عن التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهذا سبب لا يزول فرضه عن الناس فقد جاء الإسلام قاضيا على هذه الرسوم التي أضعفت تلك الأمم وقد فعل الصحابة ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى جابر وهو مريض جالسا وصلوا معه جلوسا كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وكذلك أسيد بن حضير وقيس بن فهد. وأما حديث: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" فإنه حديث ضعيف جدا ودعوى الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح. والحق أن الإمام إذا صلى جالسا لمرض وجب على القتدين الصلاة جلوسا كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.