هذا والسكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، وكذا ترك التعمق في كون العرش هو الكرسي أو خلافه خير من الجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل، ويجب أن يعلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملا له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
وهذا هو مذهب السلف في صفة الاستواء، وعلو الله على عرشه حقيقة مع التفويض في الكيفية، فقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى الله على العرش؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وذكر ذلك حسان بن ثابت في شعره، قال:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
يريد النبيين يحيى بن زكريا وأباه زكريا، وسأل مطيع البلخي أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وعرشه فوق سبع سماوات، قلت فإن قال:"إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر، وفي بعض الروايات عنه زيادة "لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل"، ومن أنكر هذا عن أبي حنيفة فهو ممن انتسب إلى مذهبه الفقهي مع مخالفته له في بعض مسائل الاعتقاد كالمعتزلة.